الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( اهدنا ) .

قال أبو جعفر : ومعنى قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، في هذا الموضع عندنا : وفقنا للثبات عليه ، كما روي ذلك عن ابن عباس : -

173 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد صلى الله عليه : " قل ، يا محمد ، اهدنا الصراط المستقيم " . يقول : ألهمنا الطريق الهادي .

وإلهامه إياه ذلك ، هو توفيقه له ، كالذي قلنا في تأويله . ومعناه نظير معنى قوله : " إياك نستعين " ، في أنه مسألة العبد ربه التوفيق للثبات على العمل بطاعته ، وإصابة الحق والصواب فيما أمره به ونهاه عنه ، فيما يستقبل من عمره ، دون ما قد مضى من أعماله ، وتقضى فيما سلف من عمره . كما في قوله : "إياك نستعين " ، مسألة منه ربه المعونة على أداء ما قد كلفه من طاعته ، فيما بقي من عمره .

فكان معنى الكلام : اللهم إياك نعبد وحدك لا شريك لك ، مخلصين لك العبادة دون ما سواك من الآلهة والأوثان ، فأعنا على عبادتك ، ووفقنا لما [ ص: 167 ] وفقت له من أنعمت عليه من أنبيائك وأهل طاعتك ، من السبيل والمنهاج .

فإن قال قائل : وأنى وجدت الهداية في كلام العرب بمعنى التوفيق ؟

قيل له : ذلك في كلامها أكثر وأظهر من أن يحصى عدد ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد . فمن ذلك قول الشاعر :


لا تحرمني ، هداك الله ، مسألتي ولا أكونن كمن أودى به السفر



يعني به : وفقك الله لقضاء حاجتي . ومنه قول الآخر :


ولا تعجلني هداك المليك     فإن لكل مقام مقالا



فمعلوم أنه إنما أراد : وفقك الله لإصابة الحق في أمري .

ومنه قول الله جل ثناؤه : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) في غير آية من تنزيله . وقد علم بذلك ، أنه لم يعن أنه لا يبين للظالمين الواجب عليهم من فرائضه . وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه ، وقد عم بالبيان جميع المكلفين من خلقه ؟ ولكنه عنى جل وعز أنه لا يوفقهم ، ولا يشرح للحق والإيمان صدورهم .

وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله : ( اهدنا ) : زدنا هداية .

وليس يخلو هذا القول من أحد أمرين : إما أن يكون ظن قائله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمسألة الزيادة في البيان ، أو الزيادة في المعونة والتوفيق .

فإن كان ظن أنه أمر بمسألة ربه الزيادة في البيان ، فذلك ما لا وجه له; لأن الله جل ثناؤه لا يكلف عبدا فرضا من فرائضه ، إلا بعد تبيينه له وإقامة الحجة عليه به . ولو كان معنى ذلك معنى مسألته البيان ، لكان قد أمر أن يدعو ربه أن يبين له ما فرض عليه ، وذلك من الدعاء خلف ، لأنه لا يفرض فرضا إلا مبينا [ ص: 168 ] لمن فرضه عليه . أو يكون أمر أن يدعو ربه أن يفرض عليه الفرائض التي لم يفرضها .

وفي فساد وجه مسألة العبد ربه ذلك ، ما يوضح عن أن معنى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، غير معنى : بين لنا فرائضك وحدودك .

أو يكون ظن أنه أمر بمسألة ربه الزيادة في المعونة والتوفيق . فإن كان ذلك كذلك ، فلن تخلو مسألته تلك الزيادة من أن تكون مسألة للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله ، أو على ما يحدث .

وفي ارتفاع حاجة العبد إلى المعونة على ما قد تقضى من عمله ، ما يعلم أن معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألته الزيادة لما يحدث من عمله . وإذ كان ذلك كذلك ، صار الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك : من أنه مسألة العبد ربه التوفيق لأداء ما كلف من فرائضه ، فيما يستقبل من عمره .

وفي صحة ذلك ، فساد قول أهل القدر الزاعمين أن كل مأمور بأمر أو مكلف فرضا ، فقد أعطي من المعونة عليه ، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجته إلى ربه . لأنه لو كان الأمر على ما قالوا في ذلك ، لبطل معنى قول الله جل ثناؤه : ( إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم ) . وفي صحة معنى ذلك ، على ما بينا ، فساد قولهم .

وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) : أسلكنا طريق الجنة في المعاد ، أي قدمنا له وامض بنا إليه ، كما قال جل ثناؤه : ( فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) سورة الصافات : 23 ، أي أدخلوهم النار ، كما تهدى المرأة إلى زوجها ، يعني بذلك أنها تدخل إليه ، وكما تهدى الهدية إلى الرجل ، وكما تهدي الساق القدم ، نظير قول طرفة بن العبد : [ ص: 169 ]


لعبت بعدي السيول به     وجرى في رونق رهمه




للفتى عقل يعيش به     حيث تهدي ساقه قدمه



أي ترد به الموارد .

وفي قول الله جل ثناؤه ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل ، مع شهادة الحجة من المفسرين على تخطئته . وذلك أن جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمعون على أن معنى " الصراط " في هذا الموضع ، غير المعنى الذي تأوله قائل هذا القول ، وأن قوله : " إياك نستعين " مسألة العبد ربه المعونة على عبادته . فكذلك قوله " اهدنا " إنما هو مسألة الثبات على الهدى فيما بقي من عمره .

والعرب تقول : هديت فلانا الطريق ، وهديته للطريق ، وهديته إلى الطريق ، إذا أرشدته إليه وسددته له . وبكل ذلك جاء القرآن ، قال الله جل ثناؤه : ( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ) سورة الأعراف : 43 ، وقال في موضع آخر : ( اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ) سورة النحل : 121 ، وقال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) .

وكل ذلك فاش في منطقها ، موجود في كلامها ، من ذلك قول الشاعر :


أستغفر الله ذنبا لست محصيه ،     رب العباد ، إليه الوجه والعمل

[ ص: 170 ]

يريد : أستغفر الله لذنب ، كما قال جل ثناؤه : ( واستغفر لذنبك ) سورة غافر : 55 .

ومنه قول نابغة بني ذبيان :


فيصيدنا العير المدل بحضره     قبل الونى والأشعب النباحا



يريد : فيصيد لنا . وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم ، وفيما ذكرنا منه كفاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية