الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 32 ] فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون

أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها ، والمفرع عليه محذوف ليس هو واحدا من الأخبار المتقدمة بخصوصه ، ولكنه مجموع ما تدل عليه قوة الحديث عنهم وما تقتضيه الفاء ، والتقدير : هم " أي المشركون " على ما وصفوا به من الغفلة عن دلائل الوحدانية وإلغائهم ما في أحوالهم من دلائل الاعتراف لله بها - لا يضرعون إلا إلى الله ، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله ، فضمائر جمع الغائبين عائدة إلى المشركين .

وهذا انتقال إلى إلزامهم بما يقتضيه دعاؤهم حين لا يشركون فيه إلها آخر مع الله بعد إلزامهم بموجبات اعترافاتهم ، فإنهم يدعون أصنامهم في شئون من أحوالهم ويستنصرونهم ، ولكنهم إذا أصابهم هول توجهوا بتضرعهم إلى الله .

وإنما خص بالذكر حال خوفهم من هول البحر في هذه الآية وفي آيات كثيرة مثل ما في سورة يونس وما في سورة الإسراء لأن أسفارهم في البر كانوا لا يعتريهم فيها خوف يعم جميع السفر ؛ لأنهم كانوا يسافرون قوافل ، معهم سلاحهم ، ويمرون بسبل يألفونها فلا يعترضهم خوف عام ، فأما سفرهم في البحر فإنهم يفرقون من هوله ولا يدفعه عنهم وفرة عدد ولا قوة عدد ، فهم يضرعون إلى الله بطلب النجاة ، ولعلهم لا يدعون أصنامهم حينئذ .

فأما تسخير المخلوقات فما كانوا يطمعون به إلا من الله تعالى ، وأيضا كان يخامرهم الخوف عند ركوبهم في البحر لقلة الفهم بركوبه ؛ إذ كان معظم أسفارهم في البراري .

وقد تقدم تعدية الركوب بحرف " في " عند قوله : وقال اركبوا فيها في سورة هود . والإخلاص : التمحيض والإفراد .

والدين : المعاملة . والمراد به هنا الدعاء ، أي دعوا الله غير مشركين معه أصنامهم . ويفسر ذلك قوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون .

[ ص: 33 ] فجيء بحرف المفاجأة للدلالة على أنهم ابتدروا إلى الإشراك في حين حصولهم في البر ، أي أسرعوا إلى ما اعتادوه من زيارة أصنامهم والذبح لها . والمفاجأة عرفية بحسب ما يقتضيه الإرساء في البر والوصول إلى مواطنهم ، فكانوا يبادرون بإطعام الطعام عند الرجوع من السفر .

واللام في " ليكفروا " لام التعليل وهي لام كي ، وهي متعلقة بفعل يشركون ، والكفر هنا ليس هو الشرك ، ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله : بما آتيناهم فإن الإيتاء بمعنى الإنعام ، وبقرينة تفريعه على " يشركون " ، فالعلة مغايرة للمعلول ، وكفران النعمة مسبب عن الإشراك ؛ لأنهم لما بادروا إلى شئون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة ، فاللام استعارة تبعية ; شبه المسبب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضا عن فاء التفريع .

وأما اللام في قوله : وليتمتعوا بكسر اللام على أنها لام التعليل في قراءة ورش عن نافع ، وأبي عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبي جعفر ، ويعقوب . وقرأه قالون عن نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بسكونها ، فهي لام الأمر ، وهي بعد حرف العطف تسكن وتكسر ، وعليه فالأمر مستعمل في التهديد نظير قوله : اعملوا ما شئتم وهو عطف جملة التهديد على جملة فلما نجاهم إلى البر إلخ . . . نظير قوله في سورة الروم : " ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون " .

والتمتع : الانتفاع القصير زمنه .

وجملة فسوف يعلمون تفريع على التهديد بالوعيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية