الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض

بعد أن ألقمهم حجر الحجة الدامغة أمر بأن يجعل الله حكما بينه وبينهم لما استمر تكذيبهم بعد الدلائل القاطعة .

وهذا من الكلام المنصف المقصود منه استدراج المخاطب .

و كفى بالله بمعنى هو كاف لي في إظهار الحق ; والباء مزيدة للتوكيد . وقد تقدم نظيره في قوله : وكفى بالله شهيدا في سورة النساء .

[ ص: 17 ] والشهيد : الشاهد . ولما ضمن معنى الحاكم عدي بظرف بيني وبينكم ، قال الحارث بن حلزة في عمرو بن هند الملك :


وهو الرب والشهيد على يو م الحيارين والبلاء بلاء

وجملة يعلم ما في السماوات والأرض مقررة لمعنى الاكتفاء به شهيدا ، فهي تتنزل منها منزلة التوكيد .

والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون بعد أن أنصفهم بقوله : كفى بالله بيني وبينكم شهيدا استمر في الانتصاف بما لا يستطيعون إنكاره وهو أن الذين اعتقدوا الباطل وكفروا بالله هم الخاسرون في الحكومة والقضية الموكولة إلى الله تعالى ، فهم إن تأملوا في إيمانهم بالله حق التأمل وجدوا أنفسهم غير مؤمنين بإلهيته ؛ لأنهم أشركوا معه ما ليس حقيقا بالإلهية ، فعلموا أنهم كفروا بالله فتعين أنهم آمنوا بالباطل ، فالكلام موجه كقوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وقول حسان في أبي سفيان بن حرب أيام جاهليته :


أتهجوه ولست له بكفء     فشركما لخيركما الفداء

وفي الجمع بين " آمنوا " و " كفروا " محسن المضادة وهو الطباق .

والباطل : ضد الحق ، أي ما ليس بحقيق أن يؤمن به ، أي ما ليس بإله حق ولكنهم يدعون له الإلهية ، وذلك إيمانهم بإلهية الأصنام . وأما كفرهم بالله فلأنهم أشركوا معه في الإلهية ، فكفروا بأعظم صفاته وهي الوحدانية .

واسم الإشارة يفيد التنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف التي ذكرت لهم قبل اسم الإشارة ، مثل أولئك على هدى من ربهم .

والقصر المستفاد من تعريف جزأي جملة هم الخاسرون قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران العظيم بحيث إن كل خسران في جانب خسرانهم كالعدم ; [ ص: 18 ] فكأنهم انفردوا بالخسران فأطلق عليهم المركب المفيد قصر الخسران عليهم ، وذلك لأنهم حقت عليهم الشقاوة العظمى الأبدية .

واستعير الخسران لانعكاس المأمول من العمل المكد تشبيها بحال من كد في التجارة لينال مالا فأفنى رأس ماله ، وقد تقدم عند قوله تعالى : فما ربحت تجارتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية