الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون

هذا عود إلى مجادلة المشركين في إثبات أن القرآن منزل من الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

فالمعنى : ومثل ذلك التنزيل البديع أنزلنا إليك الكتاب ، فهو بديع في فصاحته ، وشرف معانيه ، وعذوبة تراكيبه ، وارتفاعه على كل كلام من كلام البلغاء ، وفي تنجيمه ، وغير ذلك . وقد تقدم بيان مثل هذه الإشارة عند قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة .

وقد تفرع على بداعة تنزيله الإخبار بأن الذين علمهم الله الكتاب يؤمنون به أي يصدقون أنه من عند الله ؛ لأنهم أدرى بأساليب الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء وأعلم بسمات الرسل وشمائلهم .

[ ص: 9 ] وإنما قال فالذين آتيناهم الكتاب دون أن يقول : فأهل الكتاب ؛ لأن في آتيناهم الكتاب تذكيرا لهم بأنهم أمناء عليه كما قال تعالى : بما استحفظوا من كتاب الله .

وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل ، أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به ، أي إيمان من آمن منهم مستمر ، يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما .

والإشارة بـ هؤلاء إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية ؛ لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم . وهكذا اصطلاح القرآن حيث يذكر هؤلاء بدون سبق ما يصلح للإشارة إليه ، وهذا قد ألهمني الله إليه ، وتقدم عند قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء في سورة الأنعام . والمعنى : ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به ، أي بأن القرآن منزل من الله ، وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد ، ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك ؛ عنادا وكبرا مثل الوليد بن المغيرة .

وقد أشار قوله تعالى : وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحودا منهم لأجل تصلبهم في الكفر .

فالتعريف في الكافرون للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرف ، أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه ، ليظهر وجه الاختلاف بين " ما يجحد " وبين الكافرون ، إذ لولا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام : وما يجحد إلا الجاحدون .

وعبر عن الكتاب بالآيات ؛ لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحديه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله .

وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين ؛ لأن جحودهم واقع ، وفيه تهيئة لتوجهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون ؛ لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن ، فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية