الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثامن والعشرون بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها )

وذلك أن العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة وذلك قسمان أحدهما في المفردات نحو الدابة للحمار والغائط للنجو والرواية للمزادة ونحو ذلك وثانيهما في المركبات وهو أدقها على الفهم وأبعدها عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع العرفي تركيب لفظ مع لفظ يشتهر في العرف تركيبه مع غيره وله مثل أحدهما نحو قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } وكقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } فإن التحريم والتحليل إنما تحسن إضافتهما لغة للأفعال دون الأعيان فذات الميتة لا يمكن العرفي أن يقول هي الإحرام بما هي ذات بل فعل يتعلق بها وهو المناسب لها كالأكل للميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات ومن ذكر معهن ومن هذا الباب قوله عليه السلام { ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا } والأعراض والأموال لا تحرم بل أفعال تضاف إليها فيكون التقدير إلا وإن سفك دمائكم وأكل أموالكم وثلب أعراضكم عليكم حرام وعلى هذا المنوال جميع ما يرد من الأحكام كان أصله أن يضاف إلى الأفعال ويركب معها فإذا ركب مع الذوات في العرف وما [ ص: 172 ] بقي يستعمل في العرف إلا مع الذوات فصار هذا التركيب الخاص وهو تركيب الحكم مع الذوات موضوعا في العرف للتعبير به عن تحريم الأفعال المضافة لتلك الذوات وليس كل الأفعال بل فعل خاص مناسب لتلك الذوات كما تقدم تفصيله وتحصيله

وثانيها أفعال ليست بأحكام كقولهم في العرف أكلت رأسا وأكل رأسا فلا يكادون ينطقون بلفظ الأكل كيفما كان وتصرف إلا مع رءوس الأنعام دون جميع الرءوس بخلاف رأيت وما تصرف منه يركبونه مع رءوس الأنعام وغيرها فإذا قالوا رأينا رأسا احتمل ذلك جميع الرءوس بخلاف لفظ الأكل ومن هذا الباب قتل زيد عمرا هو في اللغة موضوع لإذهاب الحياة ثم هو اليوم في إقليم مصر موضوع للضرب خاصة فيقولون قتله الأمير بالمقارع قتلا جيدا ولا يريدون إلا ضربه فهو من باب المنقولات العرفية والأوضاع العرفية هي الطارئة على اللغة وأمكن في هذا المثال أن يقال إنه ليس من هذا الباب بل المجاز هاهنا في مفرد لا مركب وهو لفظ قتل صار وحده مجازا في ضرب وأما التركيب فهو على موضعه اللغوي وهذا هو الصحيح في هذا المثال ومن هذا الباب قولهم فلان يعصر الخمر مع أن الخمر لا تعصر بل صار هذا التركيب موضعا لعصر العنب ومقتضى اللغة أن لا يصح هذا الكلام إلا بمضاف محذوف تقديره فلان يعصر عنب الخمر لكن أهل العرف لا يقصدون هذا المضاف بل يعبرون بهذا المركب عن عصر العنب كما يعبرون بتحريم الميتة عن تحريم أكلها فهذا مجاز في التركيب بالنسبة إلى اللغة حقيقة عرفية منقولة للمعنى الخاص .

ومن هذا الباب قول أهل العرف قتل فلان قتيلا وطحن دقيقا وهذا كلام صحيح في العرف وفي اللغة لا يصح لأن القتيل لا يقتل وإنما يقتل الحي ، والدقيق لا يطحن وإنما يطحن القمح فعلى رأي أهل اللغة يصح بمضاف محذوف تقديره طحن قمح دقيق كما قررناه في عنب خمر وقتل جسد قتيل ويريدون بالجسد الجسد الحي ، وأما أهل العرف فلا يعرجون على هذه المضافات ولا تخطر ببالهم بل صار هذا اللفظ المركب موضوعا عندهم لقتل الحي وطحن القمح ، وعلى هذا المنوال فاعتبر الحقائق العرفية في المفردات والمركبات ، واعتبر اللفظ هل انتقل في العرف أم لا مفردا أو مركبا وبذلك يعرف المجاز في التركيب والإفراد فكل لفظ مفرد انتقل في العرف لغير مسماه وصار يفهم منه غير مسماه بغير قرينة كالدابة بالنسبة إلى الحمار بإقليم مصر فهو مجاز مفرد ومنقول عرفي في المفردات وكل لفظ كان شأنه أن يركب مع لفظ فصار يركب مع غيره ولو ركب أولا لكان منكرا وهو الآن غير منكر فهو منقول عرفي من المركبات ومجاز في المركبات ويكون المجاز فيه وقع في التركيب دون الإفراد وقد يجتمع [ ص: 173 ] المجاز في التركيب والإفراد فهي ثلاثة أقسام مجاز مفرد فقط كالأسد للرجل الشجاع ومجاز مركب فقط نحو قوله تعالى { واسأل القرية } فإن السؤال استعمل في السؤال ولفظ القرية استعمل في القرية ولكن تركيب السؤال مع القرية مجاز في التركيب لأن شأنه أن يركب مع أهلها وهذا مجاز في التركيب ولم يصل إلى حد النقل بخلاف يعصر الخمر ويطحن الدقيق فإنهما وصلا إلى حد النقل العرفي .

ومثال اجتماعهما معا قولك أرواني الخبز وأشبعني الماء فإنك تستعمل أرواني في الشبع ، والشبع في رواني فيقع المجاز في الإفراد وتجعل فاعل أروى الخبز وهو خلاف أصل اللغة وفاعل الشبع الماء وهو خلاف أصل اللغة فهذان المثالان جمعا بين المجاز في الإفراد والتركيب دون النقل العرفي إذا ظهر لك أن العرف كما ينقل أهله اللفظ المفرد فينقلون أيضا اللفظ المركب فمثل هذا النقل العرفي يقدم على موضوع اللغة لأنه ناسخ للغة والناسخ يقدم على المنسوخ فهذا هو معنى قولنا إن الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية . وأما العرف الفعلي فمعناه أن يوضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه مثاله أن لفظ الثوب صادق لغة على ثياب الكتان والقطن والحرير والوبر والشعر وأهل العرف إنما يستعملون من الثياب الثلاثة الأول دون الأخيرين فهذا عرف فعلي وكذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر وغير ذلك من أن أهل العرف إنما يستعملون الأخير في أغذيتهم دون الأولين فوقوع الفعل في نوع دون نوع لا يخل بوضع اللفظ للجنس كله فإن ترك مسمى لفظ لم يباشر لا يخل بوضع اللفظ فإنا لم نباشر الياقوت ولم يخل ذلك بوضع لفظ الياقوت له نعم لو كثر استعمال الياقوت في نوع آخر من الأحجار حتى صار لا يفهم إلا ذلك الحجر دون الياقوت لأجل ذلك بوضع لفظ الياقوت للياقوت وكان ذلك نسخا للفظ الياقوت عن مسماه الأول فهذا المثال يوضح لك أن ترك مباشرة المسميات لا يخل بالوضع وغلبة استعمال لفظ المسمى في غيره يخل ، فهذا هو تحرير العرف القولي وتحرير العرف الفعلي ، وتحرير أن العرف القولي يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصا وتقييدا وإبطالا وأن العرف الفعلي لا يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصا ولا تقييدا ولا [ ص: 174 ] إبطالا لعدم معارضة الفعل وعدمه لوضع اللغة ومعارضة غلبة استعمال اللفظ في العرف للوضع اللغوي .

وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع في أن العرف الفعلي لا يؤثر بخلاف العرف القولي ورأيت المازري في شرح البرهان حاول الإجماع في ذلك ونقل عن بعض الناس أنه نقل خلافا في ذلك ونقل مثلا عنه وفي ذلك نظر وقد نقلتها في شرح المحصول وبينت معناها وأنه ليس خلافا في اعتبار العرف الفعلي بل لذلك معنى آخر والظاهر حصول الإجماع فيه ولم أر أحدا جزم بحصول الخلاف فيه بل رأى كلاما لبعض الناس أوجب شكا وترددا وهو محتمل للتأويل فلا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل المشار إليها وأنا أوضح هذا الفرق بينهما بذكر أربع مسائل ( المسألة الأولى )

إذا فرضنا ملكا أعجميا يتكلم بالعجمية وهو يعرف اللغة العربية غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبا ولا يأكل خبزا وكان حلفه بهذه الألفاظ العربية التي لم تجر عادته باستعمالها وعادته في غذائه لا يأكل إلا خبز الشعير ولا يلبس إلا ثياب القطن فإنا نحنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله سواء كان من معتاده في فعله أم لا وهذا إذا لم تجر له عادة باستعمال اللغة العربية لأنه لو كانت عادته استعمال اللغة العربية لكان طول أيامه يقول أكلت خبزا وأتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل ونحو ذلك ولا يريد في هذا النطق كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به فيصير له في لفظ الخبز عرف قولي ناسخ للغة فلا نحنثه بغير خبز [ ص: 175 ] الشعير وكذلك القول في ثوب القطن بخلاف إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة فإنه لا يكون له في الألفاظ اللغوية عرف مخصص يقدم على اللغة فيحنث بعموم المسميات اللغوية من غير تخصيص ولا تقييد فتأمل ذلك . ( المسألة الثانية )

إذا حلف لا يأكل رءوسا يحنث بجميع الرءوس عند ابن القاسم ولا يحنث إلا برءوس الأنعام عند أشهب والقولان مبنيان على أن أهل العرف قد نقلوا هذا اللفظ المركب أكلت رءوسا لا كل رءوس الأنعام دون غيرها بسبب كثرة استعمالهم لذلك المركب في هذا النوع خاصة دون بقية أنواع الرءوس فهذا مدرك أشهب فيقدم النقل العرفي على الوضع اللغوي وابن القاسم يسلم استعمال أهل العرف لذلك ولكن لم يصل الاستعمال عنده إلى هذه الغاية الموجبة للنقل فإن الغلبة قد تقصر عن النقل ألا ترى أن أهل العرف يستعملون لفظ الأسد في الرجل الشجاع استعمالا كثيرا .

ولم يصل ذلك إلى حد النقل فإنه لا يفهم منه الرجل الشجاع إلا بقرينة وضابط النقل أن يصير المنقول إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة وغيره هو المفتقر إلى القرينة فهذا هو مدرك القولين فاتفق أشهب وابن القاسم على أن النقل العرفي مقدم على اللغة إذا وجد واختلفا في وجوده هنا فالكلام بينهما في تحقيق المناط ولو قال القائل رأيت رأسا لم تختلف الناس أن اللفظ لا يختص برءوس الأنعام بل يصح ذلك لكل من يسمى رأسا لغة بسبب أن هذا التركيب الذي هو رأيت رأسا لم يكثر استعماله في نوع معين من الرءوس دون غيره حتى صار منقولا بخلاف أكلت رأسا فيقر اللفظ على مسماه اللغوي من غير معارض ولا ناسخ وكذلك خلق الله رأسا وسقطت ووقعت رأس وهذه رأس وفي البيت رأس جميع هذه التراكيب ونحوها لم يقع فيها نقل عرفي بخلاف قوله أكلت رأسا ونحوه من صيغ الأكل فإن أهل العرف كثر استعمالهم له حتى صار إلى حيز النقل فقدم على اللغة عند من ثبت عنده النقل فتأمل هذه المسألة فكثير من الشراح والفقهاء إذا مر بهذه المسألة يقول فيها لا يحنث بغير رءوس الأنعام لأن عادة الناس يأكلون رءوس الأنعام دون غيرها ولا تجد في الكتب الموضوعة للشراح غير هذه العبارة وهي باطلة لأنهم يشيرون إلى العرف الفعلي الملغي بالإجماع وإنما المدرك العرف القولي على ما تقدم تحريره .

[ ص: 176 ] ( المسألة الثالثة ) إذا حلف بأيمان المسلمين تلزمه فحنث فمشهور فتاوى الأصحاب على أنه يلزمه كفارة يمين وعتق رقبة إن كان عنده وإن كثروا وصوم شهرين متتابعين والمشي إلى بيت الله في حج أو عمرة وطلاق امرأته واختلفوا هل واحدة أو ثلاث والتصدق بثلث المال ولم يلزموه اعتكاف عشرة أيام ولا المشي إلى مسجد المدينة ولا لبيت المقدس ولا الرباط في الثغور الإسلامية ولا تربية اليتامى ولا كسوة العرايا ولا إطعام الجياع ولا شيئا من القربات غير ما تقدم ذكره وسبب ذلك أنهم لاحظوا ما غلب الحلف به في العرف وما يجعل يمينا في العادة فألزموا إياه لأنه المسمى العرفي فيقدم على المسمى اللغوي ويختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها المشتهرة ولفظ الحلف والأيمان إنما تستعمل فيها دون غيرها وليس المدرك أن عادتهم يفعلون مسمياتها وأنهم يصومون شهرين متتابعين أو يحجون أو غير ذلك من الأفعال بل لغلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها لأجل ذلك صرحوا وقالوا من جرت عادته بالحلف بصوم لزمه صوم سنة فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرف الفعلي فهذا هو مدرك هذه المسألة على التحرير والتحقيق وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر اشتهار حلفهم ونذرهم للاعتكاف والرباط وإطعام الجيعان وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبله لأن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت . وتبطل معها إذا بطلت

كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في عادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبا موجبا لزيادة الثمن لم ترد به وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا وعلى هذا التحرير يظهر أن عرفنا اليوم ليس فيه الحلف بصوم شهرين متتابعين فلا تكاد تجد أحدا بمصر يحلف به فلا ينبغي الفتيا به وعادتهم يقولون عبدي حر وامرأتي طالق وعلي المشي إلى مكة ومالي صدقة إن لم أفعل كذا فتلزم هذه الأمور وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره [ ص: 177 ] على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده واجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية .

وقد تصير الكناية صريحا مستغنية عن النية واعلم أن في هذه المسألة غورا آخر وهو أن لفظ اليمين في اللغة هو القسم فقط ثم إن أهل العرف يستعملونه في النذر أيضا وهو ليس قسما بل إطلاق اليمين عليه إما مجاز لغوي أو بطريق الاشتراك وعلى التقديرين فجمع الأصحاب في هذه المسألة بين كفارة يمين وبين هذه الأمور التي جرت عادتها تنذر كالصوم ونحوه والطلاق الذي ليس هو قسما ولا نذرا يقتضي ذلك استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه إن قلنا إن لفظ اليمين حقيقة في الجميع أو الجمع بين المجاز والحقيقة وهي مسألة مختلف فيها بين العلماء هل تجوز أم لا أعني هل يكون ذلك كلاما عربيا أم لا والمنقول عن مالك والشافعي وجماعة من العلماء جواز ذلك فهذه القاعدة لا بد من ملاحظتها في هذه المسألة أيضا . ( المسألة الرابعة ) إذا قال أيمان البيعة تلزمني فتخرج ما يلزمه على هذه القاعدة وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم تكن له نية فأي شيء جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفا ومنقولا متبادرا للذهن من غير [ ص: 178 ] قرينة على القانون المتقدم حمل يمينه عليه وإن لم يكن الأمر كذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه فتأمل ذلك .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثامن والعشرون بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها إلى قوله [ ص: 172 - 173 ] فهذا هو معنى قولنا إن الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية ) قلت جميع ما قاله في ذلك ظاهر . قال ( وأما العرف الفعلي فمعناه أن يوضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه مثاله أن لفظ الثوب صادق لغة على ثياب الكتان والقطن والحرير والوبر والشعر وأهل العرف إنما يستعملون من الثياب الثلاثة الأول دون الأخير فهذا عرف فعلي إلى قوله [ ص: 174 ] فلا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل المشار إليها ) قلت ما قاله من أن العرف الفعلي لا يؤثر في وضع اللفظ للجنس كله صحيح غير أن ما أراد بناءه على ذلك من أن من حلف لا يلبس ثوبا وعادته لبس ثوب الكتان دون غيره بحيث يحنث بلبس غير الكتان ليس بمسلم له على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى قال ( وأنا أوضح هذا الفرق بينهما بذكر أربع مسائل المسألة الأولى إذا فرضنا ملكا أعجميا يتكلم بالعجمية وهو يعرف اللغة العربية غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبا ولا يأكل خبزا وكان حلفه بهذه الألفاظ العربية التي لم تجر عادته باستعمالها وعادته في غذائه لا يأكل إلا خبز الشعير ولا يلبس إلا ثياب القطن فإنا نحنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله سواء كان من معتاده في فعله أو لا إلى آخر المسألة ) قلت لا نسلم له تحنيثه بل لقائل أن يقول اقتصاره على أكل خبز الشعير ولبس القطن مقيد لمطلق لفظه ويكون ذلك من قبيل بساط الحال فإن الأيمان إنما تعتبر بالنية ثم ببساط الحال فإذا عدما حينئذ تعتبر بالعرف ثم باللغة إن عدم العرف . [ ص: 175 ] قال ( المسألة الثانية إذا حلف لا يأكل رءوسا يحنث بجميع الرءوس عند ابن القاسم ولا يحنث إلا برءوس الأنعام عند أشهب إلى آخر المسألة )

قلت جميع ما قاله في هذه المسألة صحيح غير قوله ولا نجد في الكتب الموضوعة للشراح غير هذه العبارة وهي باطلة فإنه غير مسلم لما سبق من أن الاقتصار على بعض مسمى اللفظ في الاستعمال الفعلي من جنس البساط والله أعلم . [ ص: 176 ] قال ( المسألة الثالثة إذا حلف بأيمان المسلمين تلزمه فحنث إلى منتهى قوله [ ص: 177 ] وقد تصير الكناية صريحا مستغنية عن النية ) قلت ما قاله في ذلك صحيح من جهة أن لفظ الأيمان لا بد أن تجري على عادة الحالف أو أهل بلدة تسميته يمينا والله أعلم قال

( واعلم أن في هذه المسألة غورا آخر وهو أن لفظ اليمين في اللغة هو القسم فقط ثم إن أهل العرف يستعملونه في النذر أيضا وهو ليس قسما بل إطلاق اليمين عليه إما مجاز لغوي أو بطريق الاشتراك وعلى التقديرين فجمع الأصحاب في هذه المسألة بين كفارة يمين وبين هذه الأمور التي جرت عادتها تنذر كالصوم ونحوه والطلاق الذي ليس هو قسما ولا نذرا يقتضي ذلك استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه إلى آخر المسألة ) قلت لقائل أن يقول ليس في ذلك استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه ولا الجمع بين الحقيقة والمجاز بل صارت تلك الأمور كلها تسمى في العرف إيمانا وإن كان الأصل في اللغة ما ذكر والله أعلم . قال ( المسألة الرابعة إذا قال أيمان البيعة تلزمني إلى آخر المسألة ) قلت ما قاله في ذلك صحيح غير أن ما ذكره من حمل يمينه على العرف ثم على النية ثم على البساط فيه نظر فإنه لا يخلو أن يترتب على يمينه تلك حكم أو لا يترتب فإن لم يترتب عليها حكم فالمعتبر النية ثم السبب أو البساط ثم [ ص: 178 ] العرف ثم اللغة وإن ترتب عليها حكم فالمعتبر العرف ثم اللغة لا غير والله أعلم قال .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثامن والعشرون بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها ) اعلم أن أقسام حقيقة اللفظ بالنظر إلى الواضع أو الاصطلاح أربعة الأول الحقيقة اللغوية وهو ما وضعها واضع اللغة والمراد به في هذا القسم من أحدث وضعها التحقيقي لهذا المعنى لا ذلك ومن قررها على هذا المعنى كالدابة لكل ما دب على وجه الأرض والصلاة للدعاء والفعل للأمر والشأن لا للحدث كما يتوهم الثاني الحقيقة الشرعية وهي ما وصفها الشارع كالصلاة نقلها الشارع من الدعاء للعبادة المخصوصة الثالث العرفية الخاصة وهي ما وضعها أهل عرف خاص وهم طائفة مخصوصة منسوبون لحرفة كالنحويين نقلوا الفعل مثلا من الأمر والشأن للفظ الدال على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة لاشتمال اللفظ المذكور على الأمر والشأن والرابع العرفية العامة وهي ما وضعها أهل العرف العام أي ما كان الناقل لها من جميع الطوائف ككونه داخلا في جملة أهل البلد بحيث لا يتوقف على أمر يضبط أهلها كالدابة نقلها العرف العام من كل [ ص: 188 ] ما يدب على الأرض وخصها بذات الحوافر الفرس والحمار والبغل وأهل العراق بالفرس وأهل مصر بالحمار ولا يشترط العلم بشخص الناقل في هذه الثلاثة الأخيرة وهل اتفاق كثرة الاستعمال للفظ في بعض أفراد معناه أو في معنى مناسب للمعنى الأصلي حتى يصير الأصل مهجورا هو نفس النقل نظرا إلى أن ذلك هو المحقق في مسمى المنقول ولا دليل على وجود نقل مقصود أو لا وهو الصحيح أو هو دليل عليه نظرا إلى أصل دلالة الألفاظ خلاف .

ثم النقل قيل لا بد فيه من المناسبة وقيل لا كما في ابن يعقوب على التلخيص بزيادة من الدسوقي والأنبابي وهذا القسم الرابع هو مراد الأصل بالعرف القولي وينقسم إلى قسمين الأول ما يكون في المفردات نحو الدابة في ذات الحوافر أو في الفرس أو الحمار كما مر ونحو قتل زيد عمرا فإن قتل في اللغة لإذهاب الروح وفي عرف مصر والحجاز للضرب الشديد خاصة

والثاني ما يكون في المركبات وهو أدقها على الفهم وأبعدها عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع اللغوي تركيب لفظ مع لفظ ثم يشتهر في العرف تركيبه مع غيره وأمثلته كثيرة منها قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } وقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } وقوله عليه الصلاة والسلام { ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا } وهكذا جميع ما يرد في العرف من الأحكام مركبا من الذوات فإنه وضعه العرف للتعبير عن حكم الأفعال التي لا تحسن في اللغة إضافة الأحكام إلا لها دون الذوات كالأكل للميتة والدم ولحم الخنزير والأموال والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات ومن ذكر معهن والسفك للدماء والثلب للأعراض ومنها الرأس مع لفظ الأكل كيفما كان نحو أكلت رأسا خصه العرف برءوس الأنعام بخلافه مع رأيت وما تصرف منه نحو رأيت رأسا فإنه يحتمل جميع الرءوس ومنها وضع العرف عصر الخمر في قولهم فلان يعصر الخمر لعصر العنب فلا يقدرون مضافا ومقتضى اللغة أن لا يصح هذا الكلام إلا بمضاف محذوف تقديره فلان يعصر عنب الخمر أو يجعل الخمر مجازا في العنب مرسلا لعلاقة الأول على ما فيه مما بين في محله .

ومنها وضع العرف نحو القتيل مع قتل في قولهم قتل فلان قتيلا لقتل الحي ونحو الدقيق مع طحن في قولهم طحن فلان دقيقا لطحن القمح فلا يقدرون مضافا ومقتضى اللغة أن لا يصح هذا الكلام إلا بتقدير مضاف أي قتل جسد قتيل أو طحن قمح دقيق أو بجعل فعيلا مجازا مرسلا لعلاقة الأول على ما فيه مما بين في محله وأما العرف الفعلي فمعناه أن يوضع اللفظ في اللغة لمعنى ذي أنواع ويكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواعه فقط كالثوب يصدق لغة على ثياب الكتان والقطن والحرير والوبر والشعر وأهل العرف إنما يستعملون من أنواعه المذكورة في لبسهم الثلاثة الأول دون الأخيرين وكالخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر وغير ذلك وأهل العرف إنما يستعملون في أغذيتهم خبز البر دون ما عداه وسر الفرق بين قاعدة العرف القولي يقضى به في تخصيص الألفاظ ببعض ما تصدق عليه لغة وبغير ما تصدق عليه لغة وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به في تخصيص الألفاظ ببعض ما تصدق عليه لغة هو أن العرف [ ص: 189 ] القولي لما كان عبارة عن كثرة استعمال أهل العرف العام للفظ في بعض أفراد معناه اللغوي أو في معنى مناسب لمعناه اللغوي حتى يصير الأصل مهجورا كما عرفت كان ناسخا للغة والناسخ يقدم على المنسوخ وأن العرف الفعلي لما كان عبارة عن كثرة استعمال أهل العرف لبعض أنواع مسمى اللفظ اللغوي في عوائدهم دون بقية أنواعه مع بقاء ذلك اللفظ اللغوي مستعملا في مسماه اللغوي من غير تعرض له بنقل منه لغيره لم يكن ناسخا للغة حتى يقدم من حيث كونه ناسخا على المنسوخ وبالجملة فغلبة استعمال لفظ المسمى في غيره من حيث كونه ناسخا يخل بالوضع اللغوي فيؤثر فيه تخصيصا وتقييدا وإبطالا وترك مباشرة المسميات من حيث إنه ليس بناسخ لا يخل فلا يؤثر في الوضع اللغوي تخصيصا ولا تقييدا ولا إبطالا فلذا حكى جماعة من العلماء الإجماع في أن العرف الفعلي لا يؤثر بخلاف العرف القولي وقد حاول المازري في شرح البرهان الإجماع في ذلك إلا أنه نقل عن بعض الناس أنه نقل خلافا في ذلك ونقل مثلا عنه . ا هـ .

والظاهر أنه ليس خلافا في اعتبار العرف الفعلي من حيث كونه ناسخا للغة حتى ينافي الإجماع بل هو خلاف لفظي محمول على ما سيأتي في المسائل من أنه يؤثر في الوضع اللغوي التخصيص والتقييد من حيث إنه من قبيل بساط الحال والأيمان إنما تعتبر بالنية ثم ببساط الحال ثم بالعرف ثم باللغة هذا ما ظهر لي فتأمله بأنصاف هذا ومقتضى ما تقرر في العرف القولي أمران

الأول أن يكون نحو الدابة في ذات الحوافر أو الفرس أو الحمار مجازا لغة وحقيقة عرفية والثاني تقديم العرف القولي على اللغوي لكونه ناسخا له وينافي الأول قول ابن كمال باشا في حاشية التلويح إن زيدا إذا اعتبر لا بخصوصه لا يصح عنه سلب الإنسان لا لغة ولا بحسب نفس الأمر فلا يكون مجازا بلا اشتباه .

وإذا اعتبر بخصوصه يصح سلب الإنسان عنه لغة ولكن لا يصح سلبه عنه بحسب نفس الأمر فينبغي أن لا يكون مجازا أيضا لأن من خصائصه صحة السلب لا بحسب اللغة فقط بل بحسب نفس الأمر أيضا على ما حققه القاضي عضد الدين في شرح المختصر فموجب هذا التحقيق أن لا يكون ذكر العام وإرادة الخاص من قبيل المجاز بل من قبيل الحقيقة مطلقا كما ذهب إليه الكمال بن الهمام ومن وافقه وعلله بأن اللام في قولهم في تعريف الحقيقة الكلمة المستعملة فيما وضعت له لام التعليل ولا شك أن اسم الكلي إنما وضع لأجل استعماله في الجزئي وعلله غيره بأن المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له أولا والجزئي ليس غير الكلي كما أنه ليس عينه نعم هذا التحقيق خلاف المشهور من أن العام في الخاص حقيقة إن كان من حيث تحقق العام فيه لا من حيث خصوصه ومجازا إن كان من حيث خصوصه لا من حيث تحقق العلم فيه وعليه فيصح كون الدابة في ذات الحوافر أو في الفرس أو في الحمار مجازا لغة وحقيقة عرفية سيما في نحو قولك رأيت دابة زيد أو ربطت أو علفت الدابة إذ الرؤية والربط والعلف إنما تتعلق بالفرد الموجود في الخارج لا بالمفهوم الكلي لأنه غير قابل لذلك .

وهذا هو الخلاف إنما هو فيما عمومه بدلي أما ما عمومه شمولي كالقوم والناس فإنه إذا أريد به الخصوص نحو { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } أريد بالناس الأول نعيم بن مسعود الأشجعي [ ص: 190 ] وبالثاني أبو يوسف وأصحابه فهو مجاز عند الأصوليين بلا خلاف لأن عمومه الموضوع له لم يرد تناولا ولا حكما وإن كان مخصوصا كقام القوم إلا زيدا فالذي اختاره ابن السبكي تبعا لوالده أنه حقيقة نظرا لإرادة عمومه الموضوع له تناولا .

وإن لم يرد حكما والأكثر على أنه مجاز لاستعماله في بعض ما وضع له أولا كما بسط ذلك في الأصول وعليه فيتحد العام الذي أريد به الخصوص والعام المخصوص وينافي الثاني قول الفقهاء ما لا حد له في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف إذ قضيته تأخر العرف عن اللغة نعم قال السبكي وغيره مراد الأصوليين ما إذا تعارض معنى اللفظ في اللغة والعرف ومراد الفقهاء ما إذا لم يعرف حده في اللغة ولهذا قالوا كل ما ليس له حد في اللغة ولم يقولوا معنى ا هـ فافهم أفاد جميع هذا العطار على محلى جمع الجوامع بتصرف وزياد من الدسوقي والأنبابي على مختصر المعاني

( وصل ) في توضيح هذا الفرق بأربع مسائل .

( المسألة الأولى ) إذا فرضنا ملكا أعجميا يتكلم بالعجمية ويعرف العربية غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فلا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة وقد جرت عادته في غذائه ولبسه أن لا يأكل إلا خبز الشعير ولا يلبس إلا ثياب القطن فحلف لا يلبس ثوبا ولا يأكل خبزا كان اقتصاره على أكل خبز الشعير ولبس ثياب القطن مقيدا لمطلق لفظه فلا نحنثه إلا بأكل خبز الشعير ولبس ثياب القطن فقط على الصحيح لكن لا من حيث إن عرفه الفعلي ناسخ للغة بل من حيث كونه من قبيل بساط الحال والأيمان إنما تعتبر بالنية ثم ببساط الحال ثم بالعرف .

ثم باللغة كما مر فلو كانت عادته استعمال اللغة العربية لعدم ثقلها عليه لكان طول أيامه يقول أكلت خبزا ولبست الثوب وأتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل وأتوني بالثوب وعجلوا بالثوب ونحو ذلك ولا يريد في هذا النطق كله إلا ثوب القطن وخبز الشعير الذي جرت عادته بهما لصار له في لفظي الخبز والثوب عرف قولي ناسخ للغة فلا نحنثه بغير خبز الشعير وثياب القطن أيضا لكن لا من الحيثية الأولى بل من حيث تحقق العرف الناسخ للغة حينئذ فافهم ( المسألة الثانية ) لا خلاف بين ابن القاسم وأشهب في أن النقل العرفي مقدم على اللغة إذا وجد وإن اختلفا فيما إذا حلف لا يأكل رءوسا فقال الأول يحنث بجميع الرءوس وقال الثاني لا يحنث إلا برءوس الأنعام وذلك لأن مدرك أشهب أن أهل العرف قد نقلوا هذا اللفظ المركب أعني أكلت رءوسا لأكل رءوس الأنعام خاصة دون غيرها من بقية أنواع الرءوس بسبب كثرة استعمالهم لذلك المركب في هذا النوع خاصة دون بقية أنواع الرءوس ومدرك ابن القاسم أنه وإن سلم استعمال أهل العرف لذلك المركب في هذا النوع خاصة إلا أنه لم يسلم أن الاستعمال وصل إلى غايته الموجبة للنقل فإن الغلبة قد تقصر عن النقل ألا ترى أن أهل العرف يستعملون لفظ الأسد في الرجل الشجاع استعمالا مثيرا ولم يصل ذلك إلى حد النقل فإنه لا يفهم منه الرجل الشجاع إلا بقرينة وضابط النقل أن يصير المنقول إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة وغيره هو المفتقر إلى القرينة فالخلاف إنما هو في وجود المناط هنا وعدم وجوده .

وقول كثير من [ ص: 191 ] الشراح والفقهاء إذا مر بهذه المسألة لا يحنث بغير رءوس الأنعام لأن عادة الناس يأكلون رءوس الأنعام دون غيرها ا هـ محمول على ما سبق من أن الاقتصار على بعض مسمى اللفظ في الاستعمال الفعلي من جنس البساط فافهم ( المسألة الثالثة ) مشهور فتاوى الأصحاب فيما إذا حلف بأيمان المسلمين تلزمه فحنث أنه يلزمه كفارة يمين وعتق ما عنده من الرقيق وإن كثروا وصوم شهرين متتابعين والمشي إلى بيت الله في حج أو عمرة وطلاق امرأته وفي كونه واحدة أو ثلاثا خلاف والتصدق بثلث المال ولا يلزمه اعتكاف عشرة أيام ولا المشي إلى مسجد المدينة ولا لبيت المقدس ولا الرباط في الثغور الإسلامية ولا تربية اليتامى ولا كسوة العرايا ولا إطعام الجياع ولا شيئا من القربات غير ما تقدم ذكره فلاحظوا ما غلب الحلف به في العرف من تلك الأمور التي صارت تسمى كلها في العرف أيمانا .

وإن كان لفظ اليمين في اللغة هو القسم فقط ولم يلاحظوا أن عادتهم يفعلون مسمياتها وأنهم يصومون شهرين متتابعين أو يحجون أو غير ذلك من الأفعال نظرا للقاعدتين المذكورتين تقديم المسمى العرفي على المسمى اللغوي وعدم تقديم العرف الفعلي على المسمى اللغوي .

فلذا صرحوا وقالوا من جرت عادته بالحلف بصوم لزمه صوم سنة فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرف الفعلي وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر اشتهار حلفهم بنذرهم الاعتكاف والرباط وإطعام الجيعان وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبله لأن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب في الأغراض في البياعات ونحو ذلك فإذا تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى حمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها وإذا كان الشيء عيبا في الثياب في عادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبا موجبا لزيادة الثمن لم نرد به وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه بينهم نعم قد يقع الخلاف بينهم في تحقيقه هل وجد أم لا .

قال الأصل وعرفنا اليوم ليس فيه الحلف بصوم شهرين متتابعين فلا تكاد تجد أحدا بمصر يحلف به فلا ينبغي الفتيا به وعادتهم يقولون عبدي حر وامرأتي طالق وعلي المشي إلى مكة ومالي صدقة إن لم أفعل كذا فتلزم هذه الأمور .

وعلى هذا القانون ترك الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك ودون المقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح .

والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وجميع الصرائح والكنايات فقد يصير الصريح كناية فيفتقر إلى النية وقد تصير الكناية صريحا فتستغني عن النية ا هـ وفي فتاوى الشيخ محمد عليش فيمن حلف بأيمان المسلمين ما دخل دار فلان [ ص: 192 ] ودخلها أنه تلزمه الثلاث وكفارة فقط إن لم تكن له نية وإلا لزمه ما نواه اتفاقا إذ هي من الكنايات ولم يجر العرف بالحلف بغير الله والطلاق كعرف أهل مصر الآن وإلا لزمه مقتضى الحنث في كل ما جرى به العرف ا هـ هذا ولفظ اليمين وإن كان في القسم والطلاق ونحوهما مما جرى العرف باستعماله فيه من قبيل المشترك عرفا ومن قبيل الحقيقة .

والمجاز لغة إلا أنه في قول الحالف أيمان المسلمين تلزمه ليس من قبيل استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه بحسب العرف ولا من قبيل الجمع بين الحقيقة والمجاز بحسب اللغة وإن قال الأصل به وبأن قاعدة جواز استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه والجمع بين المجاز والحقيقة كما هو المنقول عن مالك والشافعي وجماعة من العلماء نظرا لكون قرينة المجاز إنما تمنع من إرادة المعنى الحقيقي وحده كما نقله ابن القاسم عن التلويح لا بد من ملاحظتها في هذه المسألة أيضا .

وذلك لأن قاعدة تقديم المسمى العرفي على المسمى اللغوي تقتضي إبطال المسمى اللغوي فكيف يعتبر الجمع بين المجاز والحقيقة بحسبه واستعمال لفظ المشترك في جميع معانيه إنما يتحقق في لفظه المفرد لا الجمع كما هنا ألا ترى أن لفظ الزيدون رفعا والزيدين نصبا وجرا يدل على أشخاص متعددين وضع لكل واحد منهم لفظ زيد المفرد بأوضاع متعددة ولم يعدوه من قبيل استعمال المشترك في معانيه فتأمل بإنصاف ( المسألة الرابعة ) قول الحالف أمان البيعة تلزمني إن ترتب عليه حكم فالمعتبر العرف الذي جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفا ومنقولا متبادرا للذهن من غير قرينة على القانون المتقدم فإن لم يكن ذلك فاللغة لا غير وإن لم يترتب عليه حكم فالمعتبر النية ثم السبب أو البساط ثم العرف ثم اللغة والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية