الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وامرأته قائمة فضحكت )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( وامرأته ) ، سارة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ ، وهي ابنة عم إبراهيم ( قائمة ) ، قيل : كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام . وقيل : كانت قائمة تخدم الرسل ، وإبراهيم جالس مع الرسل .

وقوله : ( فضحكت ) ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( فضحكت ) ، وفي السبب الذي من أجله ضحكت .

فقال بعضهم : ضحكت الضحك المعروف ، تعجبا من أنها وزوجها إبراهيم يخدمان ضيفانهم بأنفسهما ، تكرمة لهم ، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون .

ذكر من قال ذلك :

18314 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط ، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب ، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه ، فلما رآهم إبراهيم أجلهم ، فراغ إلى أهله ، فجاء بعجل سمين ، فذبحه ثم شواه في الرضف ، فهو "الحنيذ" [ ص: 390 ] حين شواه . وأتاهم فقعد معهم ، وقامت سارة تخدمهم . فذلك حين يقول : ( وامرأته قائمة وهو جالس ) في قراءة ابن مسعود . فلما قربه إليهم قال ألا تأكلون؟ قالوا : يا إبراهيم ، إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن . قال : فإن لهذا ثمنا! قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله ، وتحمدونه على آخره . فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه يقول : لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ، ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم ، وهم لا يأكلون طعامنا !

وقال آخرون : بل ضحكت من أن قوم لوط في غفلة وقد جاءت رسل الله لهلاكهم .

ذكر من قال ذلك :

18315 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما جاؤوا فيه ، فضحكت امرأته وعجبت من أن قوما أتاهم العذاب ، وهم في غفلة . فضحكت من ذلك وعجبت ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )

18316 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أنه قال : ضحكت تعجبا مما فيه قوم لوط من الغفلة ، ومما أتاهم من العذاب .

وقال آخرون : بل ضحكت ظنا منها بهم أنهم يريدون عمل قوم لوط .

ذكر من قال ذلك :

18317 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، [ ص: 391 ] عن محمد بن قيس ، في قوله : ( وامرأته قائمة فضحكت ) ، قال : لما جاءت الملائكة ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط .

وقال آخرون : بل ضحكت لما رأت بزوجها إبراهيم من الروع .

ذكر من قال ذلك :

18318 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي : ( فضحكت ) ، قال : ضحكت حين راعوا إبراهيم مما رأت من الروع ، بإبراهيم .

وقال آخرون : بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها .

ذكر من قال ذلك :

18319 - حدثني المثنى قال إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال ، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم ، راعه هيئتهم وجمالهم ، فسلموا عليه ، وجلسوا إليه ، فقام فأمر بعجل سمين ، فحنذ له ، فقرب إليهم الطعام ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ) ، وسارة وراء البيت تسمع ، قالوا : لا تخف إنا نبشرك بغلام حليم مبارك ! وبشر به امرأته سارة ، فضحكت وعجبت : كيف يكون لي ولد وأنا عجوز ، وهو شيخ كبير! فقالوا : أتعجبين من أمر الله؟ فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم ، فأبشروا به .

وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل : إن هذا من المقدم الذي معناه التأخير ، كأن معنى الكلام عنده : وامرأته قائمة ، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضحكت وقالت : يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟ [ ص: 392 ]

وقال آخرون : بل معنى قوله : "فضحكت" في هذا الموضع : فحاضت .

ذكر من قال ذلك :

18320 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن علي بن هارون ، عن عمرو بن الأزهر ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : ( فضحكت ) ، قال : حاضت ، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة . قال : وكان إبراهيم ابن مائة سنة .

وقال آخرون : بل ضحكت سرورا بالأمن منهم ، لما قالوا لإبراهيم : لا تخف ، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضا كما خافهم إبراهيم . فلما أمنت ضحكت ، فأتبعوها البشارة بإسحاق .

وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع "ضحكت" ، بمعنى : حاضت ، من ثقة .

وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول "ضحكت المرأة" ، حاضت . قال : وقد قال : [ ص: 393 ] "الضحك" ، الحيض ، وقد قال بعضهم : "الضحك" : الثغر ، وذكر بيت أبي ذؤيب :


فجاء بمزج لم ير الناس مثله هو الضحك إلا أنه عمل النحل



وذكر أن بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض :


وضحك الأرانب فوق الصفا     كمثل دم الجوف يوم اللقا



قال : وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكميت :


فأضحكت الضباع سيوف سعد     بقتلى ما دفن ولا ودينا



وقال : يريد الحيض . قال : وبلحرث بن كعب يقولون : "ضحكت النخلة" ، إذا أخرجت الطلع أو البسر . وقالوا : "الضحك" الطلع . قال : وسمعنا من يحكي : "أضحكت حوضا" أي ملأته حتى فاض . قال : وكأن المعنى قريب بعضه من بعض كله ، لأنه كأنه شيء يمتلئ فيفيض . [ ص: 394 ]

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قول من قال : معنى قوله : "فضحكت" فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه .

وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم : ( لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم : ( لا تخف ) ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط .

التالي السابق


الخدمات العلمية