الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون المقصود من الآيات السابقة ابتداء من قوله " فلما أتاها نودي " إلى هنا الاعتبار بعاقبة المكذبين القائلين ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ليقاس النظير [ ص: 128 ] على النظير ، فقد كان المشركون يقولون مثل ذلك يريدون إفحام الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه لو كان الله أرسله حقا لكان أرسل إلى الأجيال من قبله ، ولما كان الله يترك الأجيال التي قبلهم بدون رسالة رسول ، ثم يرسل إلى الجيل الأخير ، فكان قوله ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى إتماما لتنظير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم برسالة موسى عليه السلام في أنها جاءت بعد فترة طويلة لا رسالة فيها ، مع الإشارة إلى أن سبق إرسال الرسل إلى الأمم شيء واقع بشهادة التواتر ، وأنه قد ترتب على تكذيب الأمم رسلهم إهلاك القرون الأولى ، فلم يكن ذلك موجبا لاستمرار إرسال الرسل متعاقبين بل كانوا يجيئون في أزمنة متفرقة ; فإذا كان المشركون يحاولون بقولهم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعلة تأخر زمانها سفسطة ووهما ، فإن دليلهم مقدوح فيه بقادح القلب ، بأن الرسل قد جاءوا إلى الأمم من قبل ، ثم جاء موسى بعد فترة من الرسل . وقد كان المشركون لما بهرهم أمر الإسلام لاذوا باليهود يسترشدونهم في طرق المجادلة الدينية ، فكان المشركون يخلطون ما يلقنهم اليهود من المغالطات بما استقر في نفوسهم من تضليل أيمة الشرك ، فيأتون بكلام يلعن بعضه بعضا ، فمرة يقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وهو من مجادلات الأميين ، ومرة يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء ، فكان القرآن يدمغ باطلهم بحجة الحق بإلزامهم تناقض مقالاتهم . وهذه الآية من ذلك فهي حجة بتنظير رسالة محمد برسالة موسى عليهما الصلاة والسلام ، والمقصود منها ذكر القرون الأولى .

وأما ذكر إهلاكهم فهو إدماج للنذارة في ضمن الاستدلال . وجملة ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى تخلص من قصة بعثة موسى عليه السلام إلى تأييد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم . والمقصود قوله ( من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) .

ثم إن القرآن أعرض عن بيان حكمة الفتر التي تسبق إرسال الرسل ، واقتصر على بيان الحكمة في الإرسال عقبها ؛ لأنه المهم في مقام نقض حجة المبطلين [ ص: 129 ] للرسالة أو اكتفاء بأن ذلك أمر واقع لا يستطاع إنكاره ، وهو المقصود هنا ، وأما حكمة الفصل بالفتر فشيء فوق مراتب عقولهم . فأشار بقوله بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون إلى بيان حكمة الإرسال عقب الفترة . وأشار بقوله " من بعد ما أهلكنا القرون الأولى " إلى الأمم التي استأصلها الله لتكذيبها رسل الله .

فتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لوقوع ذلك حتى يحتاج معهم إلى التأكيد بالقسم ، فموقع التأكيد هو قوله من بعد ما أهلكنا القرون الأولى .

والكتاب : التوراة التي خاطب الله بها موسى عليه السلام . والبصائر : جمع بصيرة ، وهي إدراك العقل ، سمي بصيرة اشتقاقا من بصر العين ، وجعل الكتاب بصائر باعتبار عدة دلائله وكثرة بيناته ، كما في الآية الأخرى ، قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر .

والقرون الأولى : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط . والقرن : الأمة ، قال تعالى كم أهلكنا من قبلهم من قرن . وفي الحديث خير القرون قرني .

والناس هم الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل وقوم فرعون ، ولمن يريد أن يهتدي بهديه مثل الذين تهودوا من عرب اليمن ، وهدى ورحمة لهم ، ولمن يقتبس منهم قال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور . ومن جملة ما تشتمل عليه التوراة تحذيرها من عبادة الأصنام .

وضمير " لعلهم يتذكرون " عائد إلى الناس الذين خوطبوا بالتوراة ، أي فكذلك إرسال محمد لكم هدى ورحمة لعلكم تتذكرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية