الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هذه الجملة بيان ناشئ عن قوله ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا [ ص: 52 ] من شاء الله ؛ لأن الفزع مقتض الحشر والحضور للحساب . و " من " في كلتا الجملتين شرطية .

والمجيء مستعمل في حقيقته . والباء في " بالحسنة " و " بالسيئة " للمصاحبة المجازية ، ومعناها : أنه ذو الحسنة أو ذو السيئة . وليس هذا كقوله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها في آخر الأنعام . فالمعنى هنا : من يجيء يومئذ وهو من فاعلي الحسنة ومن جاء وهو من أهل السيئة ، فالمجيء ناظر إلى قوله " وكل ءاتوه داخرين " والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل أفراده في المقام الخطابي ، أي من تمحضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله " وهم من فزع يومئذ آمنون " ، وكذلك الذي كانت حالته متمحضة للسيئات أو غالبة عليه ، كما اقتضاه قوله فكبت وجوههم في النار .

و " خير منها " اسم تفضيل اتصلت به " من " التفضيلية ، أي فله جزاء خير من حسنة واحدة لقوله تعالى في الآية الأخرى فله عشر أمثالها أو خير منها شرفا ؛ لأن الحسنة من فعل العبد والجزاء عليها من عطاء الله .

وقوله " وهم من فزع يومئذ آمنون " تبيين قوله آنفا إلا من شاء الله وهؤلاء هم الذين كانوا أهل الحسنات ، أي تمحضوا لها أو غلبت على سيئاتهم غلبة عظيمة بحيث كانت سيئاتهم من النوع المغفور بالحسنات أو المدحوض بالتوبة ورد المظالم . وكذلك قوله ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ، أي غلبت سيئاتهم وغطت على حسناتهم أو تمحضوا للسيئات بأن كانوا غير مؤمنين أو كانوا من المؤمنين أهل الجرائم والشقاء . وبين أهل هاتين الحالتين أصناف كثيرة في درجات الثواب ودرجات العقاب . وجماع أمرها أن الحسنة لها أثرها يومئذ عاجلا أو بالأخارة ، وأن السيئة لها أثرها السيئ بمقدارها ومقدار ما معها من أمثالها وما يكافئها من الحسنات أضدادها فلا تظلم نفس شيئا .

وقرأ الجمهور ( من فزع يومئذ ) بإضافة ( فزع ) إلى ( يوم ) من ( يومئذ ) وإضافة ( يوم ) إلى ( إذ ) ففتحة ( يوم ) فتحة بناء ؛ لأنه اسم زمان أضيف إلى اسم [ ص: 53 ] غير متمكن فـ ( فزع ) معرف بالإضافة إلى ( يوم ) و ( يوم ) معرف بالإضافة إلى ( إذ ) و ( إذ ) مضافة إلى جملتها المعوض عنها تنوين العوض . والتقدير : من فزع يوم إذ يأتون ربهم .

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين " فزع " ، و " يومئذ " منصوبا على المفعول فيه متعلقا بـ " آمنون " . والمعنى واحد على القراءتين إذ المراد الفزع المذكور في قوله ففزع من في السماوات ومن في الأرض فلما كان معينا استوى تعريفه وتنكيره . فاتحدت القراءتان معنى ؛ لأن إضافة المصدر وتنكيره سواء في عدم إفادة العموم فتعين أنه فزع واحد .

والكب : جعل ظاهر الشيء إلى الأرض . وعدي الكب في هذه الآية إلى الوجوه دون بقية الجسد وإن كان الكب لجميع الجسم ؛ لأن الوجوه أول ما يقلب إلى الأرض عند الكب كقول امرئ القيس :


يكب على الأذقان دوح الكنهبل

وهذا من قبيل قوله تعالى سحروا أعين الناس وقوله ولما سقط في أيديهم وقول الأعشى :

وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق



التالي السابق


الخدمات العلمية