الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 565 ] ثم دخلت سنة ست وخمسين وسبعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت هذه السنة وسلطان الإسلام والمسلمين السلطان الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي ، وليس بالديار المصرية نائب ولا وزير ، وقضاتها هم المذكورون في التي قبلها ، ونائب دمشق الأمير علي المارداني ، والقضاة والحاجب والخطيب وكاتب السر هم المذكورون في التي قبلها ، ونائب حلب الأمير سيف الدين طاز ، ونائب طرابلس منجك ، ونائب حماة أسندمر العمري ، ونائب صفد الأمير شهاب الدين بن صبح ، ونائب حمص الأمير ناصر الدين بن الأقوش ، ونائب بعلبك الحاج كامل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين تاسع صفر مسك الأمير أرغون الكاملي الذي ناب بدمشق مدة ثم بعدها بحلب ، ثم طلب إلى الديار المصرية حين وليها طاز ، فقبض عليه ، وأرسل إلى الإسكندرية معتقلا . وفي يوم السبت من شهر صفر قدم تقليد قضاء الشافعية بدمشق وأعمالها لقاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي ، على قاعدة والده ، وذلك في حياة أبيه ، وذهب الناس للسلام عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم الأحد السادس والعشرين من ربيع الآخر توجه قاضي [ ص: 566 ] القضاة تقي الدين السبكي بعد استقلال ولده تاج الدين عبد الوهاب في قضاء القضاة ومشيخة دار الحديث الأشرفية مسافرا نحو الديار المصرية في محفة ، ومعه جماعة من أهله وذويه ، منهم سبطه القاضي بدر الدين بن أبي الفتح وآخرون ، وقد كان الناس ودعوه قبل ذلك وعنده ضعف ، ومن الناس من يخاف عليه وعثاء السفر مع الكبر والضعف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان يوم الجمعة سابع شهر جمادى الآخرة صلي بعد الجمعة على قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي بن تمام السبكي المصري الشافعي ، توفي بمصر ليلة الاثنين ثالثه ، ودفن من صبيحة ذلك اليوم وقد أكمل ثلاثا وسبعين سنة ، ودخل في الرابعة أشهرا ، وولي الحكم بدمشق نحوا من سبع عشرة سنة ، ثم نزل عن ذلك لولده قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ، ثم رحل في محفة إلى الديار المصرية كما ذكرنا . ولما وصل مصر أقام دون الشهر ثم توفي كما ذكرنا ، وجاءت التعزية ومرسوم باستقرار ولده في مدرسته اليعقوبية والقيمرية ، وبتشريف; تطييبا لقلبه ، وذهب الناس إلى تعزيته على العادة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد سمع قاضي القضاة السبكي الحديث في شبيبته بديار مصر ، ورحل إلى الشام ، وقرأ بنفسه وكتب وخرج ، وله تصانيف كثيرة منتشرة كثيرة الفائدة ، وما زال في مدة القضاء يصنف ويكتب إلى حين وفاته ، وكان كثير التلاوة ، وذكر لي أنه كان يقوم من الليل ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 567 ] وفي شهر جمادى الأولى من هذه السنة اشتهر أخذ الفرنج المخذولين لمدينة طرابلس المغرب . وقرأت من كتاب لقاضي قضاة المالكية أن أخذهم إياها كان ليلة الجمعة مستهل ربيع الأول من هذه السنة ، ثم بعد خمسة عشر يوما استعادها المسلمون وقتلوا منهم أضعاف ما قتلوا أولا من المسلمين ، ولله الحمد والمنة ، وأرسل الدولة إلى الشام يطلبون من أموال أوقاف الأسارى ما يستنقذون به من بقي في أيديهم من المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأربعاء حادي عشر رجب الفرد من هذه السنة حكم القاضي المالكي - وهو قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي - بقتل نصراني من قرية الرأس من معاملة بعلبك ، اسمه داود بن سالم; ثبت عليه بمجلس الحكم في بعلبك أنه اعترف بما شهد عليه أحمد بن نور الدين علي بن غازي - من قرية اللبوة - من الكلام السيئ الذي نال به من رسول الله - صلى الله عليه سلم - وسبه وقذفه بكلام لا يليق ذكره ، فقتل - لعنه الله - يومئذ بعد أذان العصر بسوق الخيل وحرقه الناس ، وشفى الله صدور قوم مؤمنين ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صبيحة يوم الأحد رابع عشر شعبان درس القاضي بهاء الدين أبو البقاء السبكي بالمدرسة القيمرية ، نزل له عنها ابن عمه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي ، وحضر عنده القضاة والأعيان على العادة ، وأخذ في قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وصلي بعد الظهر في هذا اليوم على الشيخ الشاب الفاضل المحصل جمال الدين عبد الله ابن العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية الحنبلي ، [ ص: 568 ] ودفن عند أبيه بمقابر باب الصغير ، وكانت جنازته حافلة ، وكانت لديه علوم جيدة ، وذهنه حاضر خارق ، أفتى ، ودرس ، وأعاد ، وناظر ، وحج مرات عديدة ، رحمه الله ، وبل بالرحمة ثراه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين تاسع عشر شوال وقع حريق هائل في سوق القطانين بالنهار ، وذهب إليه نائب السلطنة ، والحجبة ، والقضاة ، حتى اجتهد الفعول والمتبرعون في إخماده وطفيه ، حتى سكن شره . وقد ذهب بسببه دكاكين ودور كثيرة جدا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد رأيته من الغد والنار كما هي عمالة ، والدخان صاعد ، وقد ذهب الناس يطفونه بالماء الكثير الغمر ، والنار لا تخمد ، لكن هدمت الجدران ، وخربت المساكن ، وانتقل السكان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية