الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب تفويض الطلاق لما ذكر ما يوقعه بنفسه بنوعيه ذكر ما يوقعه غيره بإذنه . وأنواعه ثلاثة : [ ص: 315 ] تفويض ، وتوكيل ، ورسالة وألفاظ التفويض ثلاثة : تخيير وأمر بيد ، ومشيئة .

( قال لها اختاري أو أمرك بيدك ينوي ) تفويض ( الطلاق ) لأنها كناية فلا يعملان بلا نية ( أو طلقي نفسك فلها أن تطلق في مجلس علمها به ) مشافهة أو إخبارا ( وإن طال ) يوما أو أكثر ما لم يوقته ويمضي الوقت [ ص: 316 ] قبل علمها ( ما لم تقم ) لتبدل مجلسها حقيقة ( أو ) حكما بأن ( تعمل ما يقطعه ) مما يدل على الإعراض لأنه تمليك فيتوقف على قبول في المجلس لا توكيل ، فلم يصح رجوعه ، حتى لو خيرها ثم حلف أن لا يطلقها فطلقت لم يحنث في الأصح ( لا ) تطلق ( بعده ) أي المجلس ( إلا إذا زاد ) في قوله طلقي نفسك [ ص: 317 ] وأخواته ( متى شئت أو متى ما شئت أو إذا شئت أو إذا ما شئت ) فلا يتقيد بالمجلس ( ولم يصح رجوعه ) لما مر .

التالي السابق


باب تفويض الطلاق

أي تفويضه للزوجة أو غيرها صريحا كان التفويض أو كناية ، يقال : فوض له الأمر : أي رده إليه حموي ، فالكناية قوله اختاري أو أمرك بيدك ، والصريح قوله طلقي نفسك أبو السعود ( قوله بنوعيه ) أي الصريح والكناية ح ( قوله وأنواعه ) الضمير عائد إلى ما يوقعه الغير لا للتفويض ، وإلا يلزم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى [ ص: 315 ] غيره أبو السعود ( قوله تفويض وتوكيل ) المراد بالتفويض تمليك الطلاق كما يأتي .

وذكر في الفتح في فصل المشيئة أن صاحب الهداية جعل مناط الفرق بين التمليك والتوكيل مرة بأن المالك يعمل برأي نفسه بخلاف الوكيل ، ومرة بأنه عامل لنفسه بخلافه ، ومرة بأنه يعمل بمشيئة نفسه بخلافه . قال : والفرق بين الرأي والمشيئة أن العمل بالرأي عمل بما يراه أصوب بلا اعتبار كونه لنفسه أو غيره ، والعمل بمشيئته أي باختياره ابتداء بلا اعتبار مطابقة أمر الآمر ولا اعتبار معنى الأصوبية ، ثم قال بعدما بحث في الأولين أن الفرق الثالث أصوب ( قول ورسالة ) كأن يقول لرجل : اذهب إلى فلانة وقل لها إن زوجك يقول لك اختاري ، فهو ناقل لكلام المرسل لا منشئ لكلامه بخلاف المالك والوكيل لأنهم قالوا : إن الرسول معبر وسفير هذا ما ظهر لي ( قوله ثلاثة ) أي بالاستقراء بدأ المصنف منها بالاختيار لثبوته بصريح الأخبار ولم يجعل له فصلا على حدة كصاحب الهداية لأنه لم يسبقه شيء يفصل به عما قبله بخلاف الأخيرين ، فاكتفى فيه بالباب نهر .

وحاصله أن التفويض أعم فناسب أن يترجم له بالباب ، والثلاثة أنواعه فناسب أن يترجم لكل منها بفصل لكن لم يترجم به للتخيير لأنه لم يسبقه كلام ، وبه ظهر أن ترجمة المصنف للثاني بالباب غير مناسبة ( قوله قال لها اختاري ) أشار بعدم ذكر قبولها إلى أنه تمليك يتم بالمملك وحده فلو رجع قبل انقضاء المجلس لم يصح ، وقيد باقتصاره على التخيير المطلق لأنه لو قال لها اختاري الطلاق فقالت اخترت الطلاق فهي واحدة رجعية لأنه لما صرح بالطلاق كان التخيير بين الإتيان بالرجعي وتركه ط عن البحر ( قوله أو أمرك بيدك ) لا حاجة إليه لذكر أحكام الأمر باليد في فصل مستقل يأتي ط ( قوله تفويض الطلاق ) دل على هذا المضاف عقد الباب له كما في النهر ح ( قوله لأنهما كناية ) أي من كنايات التفويض شرنبلالية ( قوله فلا يعملان بلا نية ) أي قضاء وديانة في حالة الرضا ، أما في حالة الغضب أو المذاكرة فلا يصدق قضاء في أنه لم ينو الطلاق لأنهما مما تمحض للجواب كما مر ولا يسعها المقام معه إلا بنكاح مستقبل لأنها كالقاضي ، أفاده في الفتح والبحر .

ثم اعلم أن اشتراط النية إنما هو فيما إذا لم يذكر النفس أو ما يقوم مقامها في كلامه ، وإنما ذكرت في كلامها فقط كما يأتي تحريره ، فتنبه لذلك فإني لم أر من نبه عليه ( قوله أو طلقي نفسك ) هذا تفويض بالصريح ولا يحتاج إلى نية والواقع به رجعي ; وتصح فيه نية الثلاث كما سيذكره المصنف أول فصل المشيئة ( قوله في مجلس علمها ) أفاد أنه لا اعتبار بمجلسه ، فلو خيرها ثم قام هو لم يبطل ، بخلاف قيامها بحر عن البدائع ط ( قوله مشافهة ) أي في الحاضرة أو إخبارا في الغائبة منصوبان على الحالية من علمها ( قوله ما لم يوقته إلخ ) فلو قال : جعلت لها أن تطلق نفسها اليوم اعتبر مجلس علمها في هذا اليوم ، فلو مضى اليوم ثم علمت خرج الأمر عن يدها ، وكذا كل وقت قيد التفويض به وهي غائبة ولم تعلم حتى انقضى بطل خيارها فتح وبحر وسيأتي فروع في التوقيت آخر الباب وأنه لا يبطل الموقت بالإعراض .

( قوله ويمضي الوقت ) معطوف على يوقته المجزوم ، وإثبات الياء فيه من تحريف النساخ أو على لغة كما هو أحد الأوجه التي يجاب بها عن قوله تعالى { إنه من يتق ويصبر } في قراءة رفع يصبر ; فالمعنى لها أن تطلق في المجلس وإن طال مدة عدم توقيته ، ومضى الوقت بأن لم يوقته أو وقته ولم يمض ، فإن وقته ومضى سقط الخيار ، وأما جعله مرفوعا فالواو فيه للحال فهو فاسد صناعة ومعنى ; أما الأول فلأن [ ص: 316 ] جملة الحال التي فعلها مضارع مثبت لا تقترن بالواو ، وأما الثاني فلصيرورة المعنى مدة لم يوقت في حال مضي الوقت وإذا لم يوقت كيف يمضي الوقت فافهم ، نعم في بعض النسخ فبمضي الوقت بالفاء والباء الجارة للمصدر والمعنى فإن وقت فينتهي المجلس بمضي الوقت ( قوله قبل علمها ) ليس قيدا احترازيا بل هو تنبيه على الأخفى ليعلم مقابله بالأولى كما هو عادة الشارح في مواضع لا تحصى فافهم ( قوله ما لم تقم إلخ ) الأولى أن يذكر له عاطفا يعطفه على قوله ما لم يوقته ، ولو قال ما لم تفعل ما يدل على الإعراض لكان أخصر وأفود ، ليصح عطف قوله أو حكما على حقيقة ولأنه يغنيه عن قوله أو تعمل ما يقطعه ، ولأن بطلانه بكل قيام مطلقا قول البعض والأصح كما في البحر والنهر أنه لا بد أن يدل على الإعراض ، وأثر الخلاف يظهر فيما لو قامت لتدعو الشهود كما يأتي ، ولو أقامها أو جامعها بطل كما يأتي لتمكنها من المبادرة إلى اختيارها نفسها فعدم ذلك دليل الإعراض ( قوله لتبدل مجلسها حقيقة ) أفاد أن القيام يختلف به المجلس حقيقة وهو خلاف ما في إيضاح الإصلاح ، فإنه قال : إن المجلس وإن لم يتبدل بمجرد القيام إلا أن الخيار يبطله لأنه يدل على الإعراض ، وهذا ظاهر من كلام صاحب الهداية .

وفي التبيين : المجلس يتبدل تارة حقيقة بالتحول إلى مكان آخر ، وتارة حكما بالأخذ في عمل آخر . ا هـ . ط .

قلت : وكأن الشارح حمل القيام على التحول فإنه يقال قام عن مجلسه إذا تحول عنه لا مجرد القيام عن قعود ، لما علمت من أن بطلانه بكل قيام مطلقا خلاف الأصح ( قوله مما يدل على الإعراض ) قيد به لأنه لو خيرها فلبست ثوبا أو شربت لا يبطل خيارها لأن اللبس قد يكون لتدعو شهودا ، والعطش قد يكون شديدا يمنع من التأمل ، ودخل في العمل الكلام الأجنبي ، وهذا في التخيير المطلق ، أما الموقت بشهر مثلا فلا يبطل بذلك ما دام الوقت باقيا كما مر ، أفاده في البحر ويأتي تمام الكلام فيما يكون إعراضا وما لا يكون ( قوله فيتوقف على قبولها في المجلس ) أراد بالقبول الجواب ، والضمير في يتوقف عائد على التطليق المفهوم من قوله فلها أن تطلق لا على التمليك لما صرحوا به من أن هذا التمليك يتم بالمملك وحده ، ولا يتوقف على القبول لكونها تطلق بعد التفويض وهو بعد تمام التمليك كما أوضحه في الفتح والنهر ، وبه علم أن هذا التمليك لا يتوقف تمامه على القبول ولا على الجواب في المجلس لأن الجواب : أي التطليق بعد تمامه وإنما المتوقف على الجواب هو صحة التطليق فافهم ( قوله فلم يصح رجوعه ) تفريع على كونه ليس توكيلا ، فإن الوكالة غير لازمة فلو كان توكيلا لصح عزلها قال في البحر عن جامع الفصولين : تفويض الطلاق إليها ، قيل هو وكالة يملك عزلها فالأصح أنه لا يملكه ا هـ لكن إذا كان تمليكا لا يلزم منه عدم صحة الرجوع كما في المعراج قال لانتقاضه بالهبة فإنها تمليك ويصح الرجوع . ا هـ .

وعلل له في الذخيرة بأنه بمعنى اليمين ، إذ هو تعليق الطلاق بتطليقها نفسها واعترضه في الفتح بأن هذا يجري في سائر الوكالات لتضمنه معنى إذا بعته فقد أجزته مع أن الرجوع عنها صحيح وإنما العلة هي كونه تمليكا يتم بالمملك وحده بلا قبول ، وتمامه في النهر فافهم ( قوله حتى لو خيرها إلخ ) تفريع ثان على عدم كونه توكيلا بل هو تمليك فإن علة الحنث هو قول محمد كونها نائبة عنه وهو ممنوع كما في الفتح عن الزيادات لصاحب المحيط أي لكونها صارت مالكة ، وعليه فلو وكل رجلا بطلاقها يحنث كما سيأتي في الأيمان إن شاء الله تعالى عند ذكر ما يحنث فيه بفعل [ ص: 317 ] مأموره ( قوله وأخواته ) الأولى وأختيه ، وهما : اختاري ; وأمرك بيدك . واعلم أن ما ذكره المصنف هنا إلى قوله وجلوس القائمة سيذكره أيضا في فصل المشيئة ( قوله فلا يتقيد بالمجلس ) أما في متى ومتى ما فلأنهما لعموم الأوقات فكأنه قال في أي وقت شئت فلا يقتصر على المجلس ، وأما في إذا وإذا ما فإنهما ومتى سواء عندهما ، وأما عنده فيستعملان للشرط كما يستعملان للظرف لكن الأمر صار بيدها فلا يخرج بالشك ح عن المنح ( قوله لما مر ) أي من أنه ليس توكيلا بل لو صرح بتوكيلها لطلاقها يكون تمليكا توكيلا في البحر عن الفصولين




الخدمات العلمية