الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون

قوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت عاد الكلام إلى ذكر المشركين ؛ أي قالوا أئذا متنا إلى قوله إن هذا إلا أساطير الأولين . ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء ، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه ؛ كما قال تعالى : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة . قال رب ارجعون تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك . وقد يكون القول في النفس ؛ قال الله - عز وجل - : ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول . فأما قوله ارجعون وهو مخاطب ربه - عز وجل - ولم يقل ( ارجعني ) جاء على تعظيم الذكر للمخاطب . وقيل : استغاثوا بالله - عز وجل - أولا ، فقال قائلهم : ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال : ارجعون إلى الدنيا ؛ قال ابن جريج . وقيل : إن معنى ارجعون على جهة التكرير ؛ أي أرجعني ، أرجعني ، أرجعني ، وهكذا . قال المزني في قوله تعالى ألقيا في جهنم قال : معناه ألق ألق . قال الضحاك : المراد به أهل الشرك .

قلت : ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي . ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء الله أم من أعداء الله ، ولولا ذلك لما سأل الرجعة ، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه . لعلي أعمل صالحا قال ابن عباس : يريد أشهد أن لا إله إلا الله . فيما تركت أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات . وقيل فيما تركت من المال فأتصدق . و لعل تتضمن ترددا ؛ [ ص: 139 ] وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب ، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد . فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا ، وإما إلى التوفيق ؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني ؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا . كلا هذه كلمة رد ؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا ، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح . وقيل : لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول ؛ كما قال : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه . وقيل : كلا إنها كلمة هو قائلها ترجع إلى الله تعالى ؛ أي لا خلف في خبره ، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن . وقيل : إنها كلمة هو قائلها عند الموت ، ولكن لا تنفع . ومن ورائهم برزخ أي ومن أمامهم وبين أيديهم . وقيل : من خلفهم . برزخ أي حاجز بين الموت والبعث ؛ قاله الضحاك ، ومجاهد ، وابن زيد . وعن مجاهد أيضا أن البرزخ هو الحاجز بين الموت ، والرجوع إلى الدنيا . وعن الضحاك : هو ما بين الدنيا والآخرة . ابن عباس : حجاب . السدي : أجل . قتادة : بقية الدنيا . وقيل : الإمهال إلى يوم القيامة ؛ حكاه ابن عيسى . الكلبي : هو الأجل ما بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة . وهذه الأقوال متقاربة . وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ . قال الجوهري : البرزخ الحاجز بين الشيئين . والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث ؛ فمن مات فقد دخل في البرزخ . وقال رجل بحضرة الشعبي : رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة ! فقال : لم يصر من أهل الآخرة ، ولكنه صار من أهل البرزخ ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة . وأضيف يوم إلى يبعثون لأنه ظرف زمان ، والمراد بالإضافة المصدر .

التالي السابق


الخدمات العلمية