الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 175 ] ثم دخلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخليفة والسلطان هما هما ، وكذلك النواب والقضاة ، سوى المالكي بدمشق ، فإنه العلامة فخر الدين بن سلامة ، بعد القاضي جمال الدين الزواوي ، رحمه الله . ووصلت الأخبار في المحرم من بلاد الجزيرة وبلاد الشرق : سنجار ، والموصل ، وماردين ، وتلك النواحي بغلاء عظيم ، وفناء شديد ، وقلة الأمطار ، وجور التتار ، وعدم الأقوات ، وغلاء الأسعار ، وقلة النفقات ، وزوال النعم ، وحلول النقم ، بحيث إنهم أكلوا ما وجدوه من الجمادات ، والحيوانات ، والميتات ، وباعوا حتى أولادهم وأهاليهم ، فبيع الولد بخمسين درهما وأقل من ذلك ، حتى إن كثيرا من الناس كانوا لا يشترون من أولاد المسلمين تأثما ، وكانت المرأة تصرح بأنها نصرانية ، ليشترى منها ولدها لتنتفع بثمنه ، ويحصل لها من يطعمه فيعيش ، وتأمن عليه من الهلاك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجرت في تلك البلاد أحوال صعبة يطول ذكرها ، وتنبو الأسماع عن وصفها ، وقد ترحلت منهم فرقة قريب الأربعمائة إلى ناحية مراغة ، فسقط عليهم ثلج أهلكهم عن آخرهم ، وصحبت طائفة منهم فرقة من التتار ، فلما انتهوا إلى [ ص: 176 ] عقبة صعدها التتار ، ثم منعوهم أن يصعدوها لئلا يتكلفوا بهم ، فماتوا عن آخرهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي بكرة الاثنين السابع من صفر قدم القاضي كريم الدين عبد الكريم بن العلم هبة الله وكيل الخاص السلطاني بالبلاد جميعها - قدم إلى دمشق فنزل بدار السعادة ، وأقام بها أربعة أيام ، وأمر ببناء جامع القبيبات الذي يقال له : جامع كريم الدين . وراح لزيارة بيت المقدس ، وتصدق بصدقات كثيرة وافرة ، وشرع في بناء جامعه بعد سفره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ثاني صفر جاءت ريح شديدة ببلاد طرابلس على بيوت مقدم تركمان ، فأهلكت لهم شيئا كثيرا من الأمتعة ، وقتلت أميرا منهم يقال له : طرالي ، وزوجته ، وابنيه ، وابني ابنيه ، وجاريته ، وأحد عشر نفسا ، وقتلت جمالا كثيرة وغيرها ، وكسرت الأمتعة والأثاث ، وكانت ترفع البعير في الهواء مقدار عشرة أرماح ، ثم تلقيه مقطعا ، ثم سقط بعد ذلك مطر شديد ، وبرد عظيم ، بحيث أتلف زروعا كثيرة في قرى عديدة نحو من أربع وعشرين قرية ، حتى إنها لا ترد بدارها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صفر أخرج الأمير سيف الدين طغاي الخاصكي إلى نيابة صفد ، فأقيم [ ص: 177 ] بها شهرين ، ثم مسك ، والصاحب أمين الملك إلى نظر الدواوين بطرابلس على معلوم وافر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ علم الدين : وفي يوم الخميس منتصف ربيع الأول اجتمع قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم بالشيخ الإمام العلامة تقي الدين ابن تيمية ، وأشار عليه بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق ، فقبل الشيخ نصيحته ، وأجاب إلى ما أشار به رعاية لخاطره وخواطر الجماعة المفتين ، ثم ورد البريد في مستهل جمادى الأولى بكتاب من السلطان فيه منع الشيخ تقي الدين من الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق ، وعقد في ذلك مجلس ، وانفصل الحال على ما رسم به السلطان ، ونودي به في البلد ، وكان قبل قدوم المرسوم قد اجتمع بالقاضي ابن مسلم الحنبلي جماعة من المفتين الكبار ، وقالوا له أن ينصح الشيخ في ترك الإفتاء في مسألة الطلاق ، فعلم الشيخ نصيحته ، وأنه إنما قصد بذلك ترك ثوران فتنة وشر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي عاشره جاء البريد إلى صفد بمسك سيف الدين طغاي ، وتولية بدر الدين القرماني نيابة حمص .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الشهر كان مقتل رشيد الدولة فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمذاني ، كان أصله يهوديا عطارا ، فتقدم بالطب ، وشملته السعادة حتى صار عند خربندا الجزء الذي لا يتجزأ ، وعلت رتبته وكلمته ، وتولى مناصب الوزراء ، وحصل له من الأموال ، والأملاك ، والسعادة ما لا يحد ولا يوصف ، وكان قد أظهر [ ص: 178 ] الإسلام ، وكانت لديه فضائل جمة ، وقد فسر القرآن ، وصنف كتبا كثيرة ، وكان له أولاد وثروة عظيمة ، وبلغ الثمانين من العمر ، وكانت له يد جيدة يوم الرحبة ، فإنه صانع عن المسلمين ، وأتقن القضية في رجوع ملك التتر عن البلاد الشامية سنة ثنتي عشرة ، كما تقدم ، وكان يناصح الإسلام ، ولكن قد نال منه خلق كثير من الناس ، واتهموه على الدين ، وتكلموا في تفسيره هذا ، ولا شك أنه كان مخبطا مخلطا ، وليس لديه علم نافع ، ولا عمل صالح . ولما تولى بو سعيد المملكة عزله ، وبقي مدة خاملا ، ثم استدعاه جوبان ، وقال له : أنت سقيت السلطان خربندا سما؟ فقال له : أنا كنت في غاية الحقارة والذلة ، فصرت في أيامه وأيام أبيه في غاية العظمة والعزة ، فكيف أعمد إلى سقيه والحالة هذه ! فأحضرت الأطباء ، فذكروا صورة مرض خربندا وصفته ، وأن الرشيد أشار بإسهاله لما عنده في باطنه من الحواصل ، فانطلق باطنه نحوا من سبعين مجلسا ، فمات ، فاعترف بذلك على وجه أنه أخطأ في الطب ، فقال : فأنت إذا قتلته ، فقتله وولده إبراهيم ، واحتيط على حواصله وأمواله ، فبلغت شيئا كثيرا ، وقطعت أعضاؤه ، وحمل كل جزء منها إلى بلدة ، ونودي على رأسه بتبريز : هذا رأس اليهودي الذي بدل كلام الله ، لعنه الله . ثم أحرقت جثته ، وكان القائم عليه علي شاه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الشهر - أعني : جمادى الأولى - تولى قضاء المالكية بمصر قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي عوضا عن زين الدين بن مخلوف ، توفي [ ص: 179 ] عن أربع وثمانين سنة ، وله في الحكم ثلاث وثلاثون سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الخميس عاشر رجب لبس صلاح الدين يوسف بن الملك الأوحد خلعة الإمرة بمرسوم السلطان . وفي آخر رجب جاء سيل عظيم بظاهر حمص ، خرب شيئا يسيرا ، وجاء إلى البلد ليدخلها ، فمنعه الخندق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شعبان تكامل بناء الجامع الذي عمره تنكز ظاهر باب النصر ، وأقيمت الجمعة فيه يوم عاشر شعبان ، وخطب فيه الشيخ نجم الدين علي بن داود بن يحيى الحنفي المعروف بالقحفازي ، من مشاهير الفضلاء ذوي الفنون المتعددة ، وحضر نائب السلطنة ، والقضاة ، والأعيان ، والقراء ، والمنشدون ، وكان يوما مشهودا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الجمعة التي تليها خطب بجامع القبيبات الذي أنشأه كريم الدين وكيل السلطان ، وحضر فيه القضاة والأعيان ، وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الواحد بن يوسف بن الوزير الحراني الأسدي الحنبلي ، وهو من الصالحين الكبار ، ذوي الزهادة ، والعبادة ، والنسك ، والتوجه ، وطيب الصوت ، وحسن السمت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي حادي عشر رمضان خرج الشيخ شمس الدين بن النقيب إلى حمص حاكما بها ، مطلوبا مسئولا ، مرغوبا فيه ، وخرج الناس لتوديعه . وفي هذا الشهر حصل سيل عظيم بسلمية ، ومثله بالشوبك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج المحمل في شوال وأمير الركب الأمير علاء الدين بن [ ص: 180 ] معبد والي البر ، وقاضيه زين الدين بن قاضي الخليل الحاكم بحلب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن حج في هذه السنة من الأعيان : الشيخ برهان الدين الفزاري ، وكمال الدين بن الشريشي وولده ، وبدر الدين بن العطار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي الحادي عشر من ذي الحجة انتقل الأمير فخر الدين أياس الأعسري من شد الدواوين بدمشق إلى طرابلس أميرا . وفي يوم الجمعة السابع عشر من ذي الحجة أقيمت الجمعة في الجامع الذي أنشأه الصاحب شمس الدين غبريال - ناظر الدواوين بدمشق - خارج باب شرقي ، إلى جانب ضرار بن الأزور رضي الله عنه ، بالقرب من محلة القعاطلة ، وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن التدمري ، المعروف بالنيرباني ، وهو من كبار الصالحين ذوي العبادة والزهادة ، وهو من أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وحضره الصاحب المذكور ، وجماعة من القضاة والأعيان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين العشرين من ذي الحجة باشر الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي - المحدث الحافظ - مشيخة الحديث بتربة أم الصالح عوضا عن كمال الدين بن الشريشي ، توفي بطريق الحج في شوال ، وقد كان له في مشيختها ثلاث وثلاثون سنة ، وحضر عند الذهبي جماعة من القضاة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 181 ] وفي يوم الثلاثاء صبيحة هذا الدرس أحضر الفقيه زين الدين بن عبيدان الحنبلي من بعلبك ، وحوقق على منام رآه ، زعم أنه رآه بين النائم واليقظان ، وفيه تخليط وتخبيط ، وكلام كثير لا يصدر عن مستقيم المزاج ، كان كتبه بخطه ، وأرسله إلى بعض أصحابه ، فاستسلمه القاضي الشافعي ، وحقن دمه ، وعزره ، ونودي عليه في البلد ، ومنع من الفتوى وعقود الأنكحة ، ثم أطلق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأربعاء بكرة باشر بدر الدين محمد بن بصخان مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح عوضا عن الشيخ مجد الدين التونسي ، توفي ، وحضر عنده الأعيان والفضلاء ، وقد حضرته يومئذ ، وقبل ذلك باشر مشيخة الإقراء بالأشرفية عوضا عن الشيخ محمد بن خروف الموصلي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الخميس ثالث عشرين ذي الحجة باشر الشيخ الإمام ، العلامة الحافظ الحجة ، شيخنا ومفيدنا ، أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي - مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي ، ولم يحضر عنده كبير أحد لما في نفوس بعض الناس من ولايته لذلك ، مع أنه لم يتولها أحد قبله أحق بها منه ، ولا أحفظ منه ، وما عليه منهم إذ لم يحضروا عنده ، فإنه لا يوحشه إلا حضورهم عنده ، وبعدهم عنه أنس . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية