الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق .

[ ص: 343 ] هذا رد على قولهم : ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) بعد أن رد عليهم قولهم : ( أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ) بقوله : ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ) ، ولكن لما كان قولهم : ( أو يلقى إليه كنز ) حالة لم تعط للرسل في الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيرا من ذلك في الآخرة .

وأما قولهم : ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له ، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر ، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد قالوا : ( فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) ، وإذا كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام ؛ إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية ؛ لأن الدعوة تكون في مجامع الناس . وقد قال موسى : ( موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ) . وكان النبيء صلى الله عليه وسلم يدعو قريشا في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم .

وجملة ( ليأكلون الطعام ) في موضع الحال ؛ لأن المستثنى منه عموم الأحوال . والتقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حال إلا في حال ( إنهم ليأكلون الطعام ) . والتوكيد بـ ( إن ) واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلا للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق . ولم تقترن جملة الحال بالواو ؛ لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى أربعة حروف وهي : إلا ، وإن ، واللام ، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى : ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) . وقوله : ( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ) .

وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية ؛ إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك ، وإنما يغير الله حياتهم [ ص: 344 ] النفسية ؛ لأن في تغييرها إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية .

ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم ؛ لأنه ما خلقها عبثا فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية