الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا

عطف ( ويوم نحشرهم ) إما على جملة ( قل أذلك خير ) إن كان المراد : قل للمشركين ، أو عطف على جملة ( وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ) على جواز أن المراد : قل للمؤمنين .

وعلى كلا الوجهين فانتصاب ( يوم نحشرهم ) ) على المفعولية لفعل محذوف [ ص: 337 ] معلوم في سياق أمثاله ، تقديره : اذكر ذلك اليوم ؛ لأنه لما توعدهم بالسعير وما يلاقون من هولها بين لهم حال ما قبل ذلك وهو حالهم في الحشر مع أصنامهم . وهذا مظهر من مظاهر الهول لهم في المحشر إذ يشاهدون خيبة آمالهم في آلهتهم ؛ إذ يرون حقارتها بين يدي الله وتبرؤها من عبادها ، وشهادتها عليهم بكفرانهم نعمة الله وإعراضهم عن القرآن ، وإذ يسمعون تكذيب من عبدوهم من العقلاء من الملائكة وعيسى عليهم السلام والجن ، ونسبوا إليهم أنهم أمروهم بالضلالات .

وعموم الموصول من قوله : ( وما يعبدون ) شامل لأصناف المعبودات التي عبدوها ولذلك أوثرت ( ما ) الموصولة ؛ لأنها تصدق على العقلاء وغيرهم . على أن التغليب هنا لغير العقلاء . والخطاب في ( أأنتم أضللتم ) للعقلاء بقرينة توجيه الخطاب .

فجملة ( قالوا سبحانك ) جواب عن سؤال الله إياهم : ( أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ) ، فهو استئناف ابتدائي ولا يتعلق به ( يوم نحشرهم ) ) .

وقرأ الجمهور ( نحشرهم ) بالنون و ( يقول ) بالياء ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة . وقرأه ابن كثير ، وأبو جعفر ، ويعقوب ( يحشرهم - ويقول ) كليهما بالياء . وقرأ ابن عامر ( نحشرهم - ونقول ) كليهما بالنون .

والاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد . والمعنى : أأنتم أضللتموهم أم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم ؟ ففي الكلام حذف دل عليه المذكور .

وأخبر بفعل ( أضللتم ) عن ضمير المخاطبين المنفصل وبفعل ( ضلوا ) عن ضمير الغائبين المنفصل ليفيد تقديم المسند إليهما على الخبرين الفعليين تقوي الحكم المقرر به لإشعارهم بأنهم لا مناص لهم من الإقرار بأحد الأمرين وأن أحدهم محقق الوقوع لا محالة . فالمقصود بالتقوية هو معادل همزة الاستفهام وهو ( أم هم ضلوا السبيل ) .

[ ص: 338 ] والمجيبون هم العقلاء من المعبودين : الملائكة وعيسى عليهم السلام .

وقولهم ( سبحانك ) كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع ، كقول الأعشى :


قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر



وتقدم في سورة النور ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) . واعلم أن ظاهر ضمير ( نحشرهم ) أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ) إلى قوله : ( مسحورا ) ؛ لكن ما يقتضيه وصفهم بـ ( الظالمون ) والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله : ( لمن كذب بالساعة ) من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة ، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير ( نحشرهم ) عائدا إلى ( من كذب بالساعة ) فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين .

ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها .

والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد .

وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي .

وإسناد القول إلى ما يعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقا يسمعه عبدتها ، أما غير الأصنام ممن عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر .

وإعادة فعل ( ضلوا ) في قوله : ( أم هم ضلوا السبيل ) ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوي في نسبة الضلال إليهم . والمعنى : أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم . وحق الفعل أن يعدى بـ ( عن ) ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى ( أخطئوا ) ، أو على نزع الخافض .

و ( سبحانك ) تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله عن أن يدعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية .

[ ص: 339 ] ومعنى ( ما كان ينبغي لنا ) ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة ؛ لأن ( انبغى ) مطاوع ( بغاه ) إذا طلبه . فالمعنى : لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء ، أي عبادا ، قال تعالى : ( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) . وقد تقدم في قوله تعالى : ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) في سورة مريم . وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديدا ، أي نتبرأ من ذلك ؛ لأن نفي ( كان ) وجعل المطلوب نفيه خبرا عن ( كان ) أقوى في النفي ولذلك يسمى جحودا . والخبر مستعمل في لازم فائدته ، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله .

و ( من ) في قوله ( من دونك ) للابتداء ؛ لأن أصل ( دون ) أنه اسم للمكان ، ويقدر مضاف محذوف يضاف إليه ( دون ) نحو : جلست دون ، أي دون مكانه ، فموقع ( من ) هنا موقع الحال من ( أولياء ) . وأصلها صفة لـ ( أولياء ) فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالا . والمعنى : لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك ، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية .

وعن ابن جني : أن ( من ) هنا زائدة . وأجاز زيادة ( من ) في المفعول .

و ( من ) في قوله ( من أولياء ) مزيدة لتأكيد عموم النفي ، أي استغراقه ؛ لأنه نكرة في سياق النفي .

والأولياء : جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء ، أي على السيد والعبد ، أو الناصر والمنصور . والمراد هنا : الولي التابع كما في قوله : ( فتكون للشيطان وليا ) في سورة مريم ، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا .

وقرأ الجمهور ( نتخذ ) بالبناء للفاعل . وقرأه أبو جعفر ( نتخذ ) بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول ، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك . فموقع ( من دونك ) موقع الحال من ضمير ( نتخذ ) . والمعنى عليه : أنهم يتبرءون من أن يدعوا الناس لعبادتهم ، وهذا تسفيه للذين عبدوهم [ ص: 340 ] ونسبوا إليهم موالاتهم . والمعنى : لا نتخذ من يوالينا دونك ، أي من يعبدنا دونك .

والاستدراك الذي أفاده ( لكن ) ناشئ عن التبرؤ من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم ؛ لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين . والمقصود بالاستدراك ما بعد ( حتى ) وهو ( نسوا الذكر ) ، وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قابلوا رحمة الله ونعمته عليهم وعلى آبائهم بالكفران ، فالخبر عن الله بأنه متع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة ، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضبا عليهم .

وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتيع للإيماء إلى أن ذلك التمتيع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجود في أرض سبخة ، قال تعالى : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) .

والتعرض إلى تمتيع آبائهم هنا مع أن نسيان الذكر إنما حصل من المشركين الذين بلغتهم الدعوة المحمدية ونسوا الذكر ، أي : القرآن ، هو زيادة تعظيم نعمة التمتيع عليهم بأنها نعمة متأثلة تليدة ، مع الإشارة إلى أن كفران النعمة قد انجر لهم من آبائهم الذين سنوا لهم عبادة الأصنام . ففيه تعريض بشناعة الإشراك ولو قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم .

وبهذا يظهر أن ضمير ( نسوا ) وضمير ( كانوا ) عائدان إلى الظالمين المكذبين بالإسلام دون آبائهم ؛ لأن الآباء لم يسمعوا الذكر .

والنسيان مستعمل في الإعراض عن عمد على وجه الاستعارة ؛ لأنه إعراض يشبه النسيان في كونه عن غير تأمل ولا بصيرة . وتقدم في قوله تعالى : ( وتنسون ما تشركون ) في سورة الأنعام .

والذكر : القرآن ؛ لأنه يتذكر به الحق ، وقد تقدم في قوله تعالى : [ ص: 341 ] ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) في سورة الحجر .

والبور : جمع بائر كالعوذ جمع عائذ ، والبائر : هو الذي أصابه البوار ، أي الهلاك . وتقدم في قوله تعالى : ( وأحلوا قومهم دار البوار ) أي الموت . وقد استعير البور لشدة سوء الحالة بناء على العرف الذي يعد الهلاك آخر ما يبلغ إليه الحي من سوء الحال كما قال تعالى : ( يهلكون أنفسهم ) ، أي سوء حالهم في نفس الأمر وهم عنه غافلون . وقيل : البوار الفساد في لغة الأزد ، وأنه وما اشتق منه مما جاء في القرآن بغير لغة مضر .

واجتلاب فعل ( كان ) وبناء ( بورا ) على ( قوما ) دون أن يقال : حتى نسوا الذكر وباروا للدلالة على تمكن البوار منهم بما تقتضيه ( كان ) من تمكن معنى الخبر ، وما يقتضيه ( قوما ) من كون البوار من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى : ( لآيات لقوم يعقلون ) في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية