الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد

عطف على ( باشروهن ) ، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما ، يلفق به بين الثياب بشده بإبرة أو مخيط ، يقال خاط الثوب وخيطه . وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط ، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسواد الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية :


فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا



وقوله : ( من الفجر ) " من " ابتدائية أي : الشعاع الناشئ عن الفجر ، وقيل : بيانية . وقيل : تبعيضية . وكذلك قول أبي دؤاد : من الصبح ؛ لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك ، وجعله في الكشاف تشبيها بليغا ، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام ، كالآية وبيت أبي دؤاد ، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلا لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه ؛ لأنه ليس بتشبيه واضح .

[ ص: 184 ] وقد جيء في الغاية بحتى ، وبالتبين للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق ، ثم قوله تعالى : ( حتى يتبين ) تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق ، وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم ، إذ ليس في زمان رمضان إلا صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر ، فكان قوله : أتموا الصيام إلى الليل بيانا لنهاية وقت الصيام ، ولذلك قال تعالى : ( ثم أتموا ) ولم يقل : ( ثم صوموا ) لأنهم صائمون من قبل .

و ( إلى الليل ) غاية اختير لها ( إلى ) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن " إلى " تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل .

واعلم أن " ثم " في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ؛ لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجا لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الضحوة الكبرى .

بناء على أن " ثم " للتراخي ، وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه فكأنه قال : ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل ، فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر ، وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة - غفلة عن معنى التراخي في عطف " ثم " للجمل .

هذا وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرت له ذلك فقال رسول الله إن وسادك لعريض ، وفي رواية : إنك لعريض القفا ، وإنما ذلك سواد الليل وبياض النهار .

ورويا عن سهل بن سعد قال : نزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد من الفجر فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم قد كان عمله غيره من قبله بمدة طويلة ، فإن عديا أسلم سنة تسع أو سنة عشر ، وصيام رمضان فرض [ ص: 185 ] سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام ، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عديا وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه ، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن عدي أنه قال : لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلخ فهو قد ذكر الآية مستكملة ، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبل فرض رمضان ؛ أي : صوم عاشوراء أو صوم النذر وفي صوم التطوع ، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها من الفجر علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ ، ثم حدث مثل ذلك لعدي بن حاتم .

وحديث سهل ، لا شبهة في صحة سنده إلا أنه يحتمل أن يكون قوله فيه : ولم ينزل من الفجر وقوله : فأنزل الله بعد ذلك من الفجر مرويا بالمعنى ، فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة ؛ لأنه لم يقع في الصحيحين إلا من رواية سعيد بن أبي مريم ، عن أبي غسان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد فقال الراوي : فأنزل بعد أو بعد ذلك ( من الفجر ) وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعد وكلوا واشربوا إلى قوله : ( من الفجر ) .

وأياما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان ؛ لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب ، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل ، وعدم فهم بعضهم المراد منه لا يقدح في ظهور الظاهر ، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود فهموا أشهر معاني الخيط وظنوا أن قوله : ( من الفجر ) متعلق بفعل ( يتبين ) على أن تكون ( من ) تعليلية ؛ أي : يكون تبينه بسبب ضوء الفجر ، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم إن وسادك لعريض أو إنك لعريض القفا كناية عن قلة الفطنة ، وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام .

وقوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون عطف على قوله : " باشروهن " لقصد أن يكون المعتكف صالحا ، وأجمعوا على أنه لا يكون إلا في المسجد لهاته الآية ، واختلفوا في صفة المسجد ، فقيل لا بد من المسجد الجامع ، وقيل مطلق مسجد ، وهو التحقيق وهو مذهب [ ص: 186 ] مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله ، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر .

التالي السابق


الخدمات العلمية