الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون

[ ص: 129 ] ( اخسئوا ) زجر وشتم بأنهم خاسئون ، ومعناه عدم استجابة طلبهم . وفعل خسأ من باب منع ومعناه ذل . ونهوا عن خطاب الله والمقصود تأييسهم من النجاة مما هم فيه .

وجملة إنه كان فريق من عبادي إلى آخرها استئناف قصد منه إغاظتهم بمقابلة حالهم يوم العذاب بحال الذين أنعم الله عليهم ، وتحسيرهم على ما كانوا يعاملون به المسلمين .

والإخبار في قوله : إنه كان فريق من عبادي إلى قوله : ( سخريا ) مستعمل في كون المتكلم عالما بمضمون الخبر بقرينة أن المخاطب يعلم أحوال نفسه . وتأكيد الخبر بـ ( إن ) وضمير الشأن للتعجيل بإرهابهم .

وجملة ( إني جزيتهم ) خبر ( إن ) الأولى لزيادة التأكيد . وتقدم نظيره في قوله : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا في سورة الكهف .

والسخري بضم السين في قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر وخلف ، وبكسر السين في قراءة الباقين ، وهما وجهان ومعناهما واحد عند المحققين من أيمة اللغة لا فرق بينهما خلافا لأبي عبيدة والكسائي والفراء الذين جعلوا المكسور مأخوذا من سخر بمعنى هزأ ، والمضموم مأخوذا من السخرة بضم السين وهي الاستخدام بلا أجر . فلما قصد منه المبالغة في حصول المصدر أدخلت ياء النسبة كما يقال : الخصوصية لمصدر الخصوص .

وسلط الاتخاذ على المصدر للمبالغة كما يوصف بالمصدر . والمعنى : اتخذتموهم مسخورا بهم ، فنصب ( سخريا ) على أنه مفعول ثان لـ ( اتخذتموهم ) . و ( حتى ) ابتدائية ومعنى ( حتى ) الابتدائية معنى فاء السببية فهي استعارة تبعية . شبه التسبب القوي بالغاية فاستعملت فيه ( حتى ) . والمعنى : أنكم لهوتم عن التأمل فيما جاء به القرآن من الذكر ; لأنهم سخروا منهم لأجل أنهم مسلمون فقد سخروا من الدين الذي كان اتباعهم إياه سبب السخرية بهم فكيف [ ص: 130 ] يرجى من هؤلاء التذكر بذلك الذكر وهو من دواعي السخرية بأهله . وتقدم الكلام على فعل ( سخر ) عند قوله : فحاق بالذين سخروا منهم في سورة الأنعام وقوله : فيسخرون منهم في سورة براءة .

فإسناد الإنساء إلى الفريق مجاز عقلي لأنهم سببه أو هو مجاز بالحذف بتقدير : حتى أنساكم السخري بهم ذكري ، والقرينة على الأول معنوية وعلى الثاني لفظية .

وقوله : أنهم هم الفائزون قرأه الجمهور بفتح همزة ( أن ) على معنى المصدرية والتأكيد أي : جزيتهم بأنهم . وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة ( إن ) على التأكيد فقط فتكون استئنافا بيانيا للجزاء .

وضمير الفصل للاختصاص ، أي : هم الفائزون لا أنتم .

وقوله : بما صبروا إدماج للتنويه بالصبر ، والتنبيه على أن سخريتهم بهم كانت سببا في صبرهم الذي أكسبهم الجزاء . وفي ذلك زيادة تلهيف للمخاطبين بأن كانوا هم السبب في ضر أنفسهم ونفع من كانوا يعدونهم أعداءهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية