الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هؤلاء "الآخرين" ، من هم ، وما هم؟

فقال بعضهم : هم بنو قريظة .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 36 ]

16239 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وآخرين من دونهم ) ، يعني : من بني قريظة .

16240 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وآخرين من دونهم ) ، قال : قريظة .

وقال آخرون : من فارس .

ذكر من قال ذلك :

16241 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ، هؤلاء أهل فارس .

وقال آخرون : هم كل عدو للمسلمين ، غير الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم . قالوا : وهم المنافقون .

ذكر من قال ذلك :

16242 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) ، قال : أخفهم بهم ، لما تصنع بهؤلاء . وقرأ : ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) .

16243 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ، قال : هؤلاء المنافقون ، لا تعلمونهم لأنهم معكم ، يقولون : لا إله إلا الله ، ويغزون معكم . [ ص: 37 ]

وقال آخرون : هم قوم من الجن .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين ، من السلاح والرمي وغير ذلك ، ورباط الخيل ، ولا وجه لأن يقال : عنى ب"القوة" ، معنى دون معنى من معاني "القوة" ، وقد عم الله الأمر بها .

فإن قال قائل : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين أن ذلك مراد به الخصوص بقوله : " ألا إن القوة الرمي

قيل له : إن الخبر ، وإن كان قد جاء بذلك ، فليس في الخبر ما يدل على أنه مراد بها الرمي خاصة ، دون سائر معاني القوة عليهم ، فإن الرمي أحد معاني القوة؛ لأنه إنما قيل في الخبر : " ألا إن القوة الرمي " ، ولم يقل : "دون غيرها" ، ومن "القوة" أيضا السيف والرمح والحربة ، وكل ما كان معونة على قتال المشركين ، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم . هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله : ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ) ، فإن قول من قال : عنى به الجن ، أقرب وأشبه بالصواب ، لأنه - جل ثناؤه - قد أدخل بقوله : ( ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ، الأمر بارتباط الخيل لإرهاب كل عدو لله وللمؤمنين يعلمونهم ، ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم ، لعلمهم بأنهم مشركون ، وأنهم لهم حرب . ولا معنى لأن يقال : وهم يعلمونهم لهم [ ص: 38 ] أعداء : ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ) ، ولكن معنى ذلك - إن شاء الله : ترهبون بارتباطكم ، أيها المؤمنون ، الخيل عدو الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم ، لكفرهم بالله ورسوله ، وترهبون بذلك جنسا آخر من غير بني آدم ، لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم ، الله يعلمهم دونكم؛ لأن بني آدم لا يرونهم . وقيل : إن صهيل الخيل يرهب الجن ، وأن الجن لا تقرب دارا فيها فرس .

فإن قال قائل : فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون ، فما تنكر أن يكون عني بذلك المنافقون؟

قيل : فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم ، وإنما كان يروعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرون من الكفر ، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوة لإرهاب العدو ، فأما من لم يرهبه ذلك ، فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون . وقيل : "لا تعلمونهم" ، فاكتفي ل"العلم" ، بمنصوب واحد في هذا الموضع ، لأنه أريد : لا تعرفونهم ، كما قال الشاعر : [ ص: 39 ]


فإن الله يعلمني ووهبا وأنا سوف يلقاه كلانا



التالي السابق


الخدمات العلمية