الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن عطف هذا الشرط الامتناعي على جملة وأكثرهم للحق كارهون زيادة في التشنيع على أهوائهم فإنها مفضية إلى فساد العالم ومن فيه وكفى بذلك فظاعة وشناعة .

[ ص: 92 ] والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله : بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء . وعلم من قوله : ولو اتبع الحق أهواءهم أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفا أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى . والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه ، وهو مصدر بمعنى المفعول . وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة ، فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس ، أو شهوة ما تقتضيه الجبلة لكن يشتهى على كيفية وحالة لا تقتضيها الجبلة لما يترتب على تلك الحالة من فساد وضر مثل شهوة الطعام المغصوب وشهوة الزنا ، فمرجع معنى الهوى إلى المشتهى الذي لا تقتضيه الجبلة .

والاتباع : مجاز شائع في الموافقة ، أي : لو وافق الحق ما يشتهونه . ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس . فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له : فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحدا ، وكونه لا يلد وكون البعث واقعا للجزاء ، فكونها حقا هو عين تقررها في الخارج .

ومنها الحقائق المعنوية الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات . وكونها حقا هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلما ، وكون القتل عدوانا ، وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه ، فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن ، أي : من في السماوات والأرض من الناس .

ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جاريا على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى; فمنها [ ص: 93 ] المتفق ، وأكثرها مختلف ، وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك ، فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقا لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم .

فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى ، فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقد تقدم تفصيله في سورة الأنبياء . وذلك أصل الحق وقوامه وانتقاضه انتقاض لنظام السماوات والأرض كما تقدم . وقد قال الله تعالى في هذه السورة : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله الآية ، فمن هواهم الباطل أن جعلوا من كمال الله أن يكون له ولد .

ثم ننتقل بالبحث إلى بقية حقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق لو فرض أن يكون الثابت نقيض ذلك لتسرب الفساد إلى السماوات والأرض ومن فيهن . فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل ; فلم يعمل أحد خيرا إذ لا رجاء في ثواب . ولم يترك أحد شرا إذ لا خوف من عقاب ، فيغمر الشر الخير والباطل الحق وذلك فساد لمن في السماوات والأرض قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون . وكذا لو كان الحق حسن الاعتداء ، والباطل قبح العدل لارتمى الناس بعضهم على بعض بالإهلاك جهد المستطاع فهلك الضرع والزرع قال تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ، وهكذا الحال في أهوائهم المختلفة . ويزيد أمرها فسادا بأن يتبع الحق كل ساعة هوى مخالفا للهوى الذي اتبعه قبل ذلك فلا يستقر نظام ولا قانون .

وهذا المعنى ناظر إلى معنى قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون .

[ ص: 94 ] والظاهر أن ( من ) في قوله : ومن فيهن صادقة على العقلاء من البشر والملائكة . ففساد البشر على فرض أن يكون جاريا على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه .

وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم آلهة ; لأن المتولد من جنس يجب أن يكون مماثلا لما تولد هو منه إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة . وأيضا لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح .

ويجوز أن يكون ( من ) صادقا على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال ( من ) . ووجه الملازمة ينتظم بالأصالة مع وجه الملازمة بين تعدد الآلهة وبين فساد السماوات والأرض ثم يسري إلى اختلاف مواهي الموجودات فتصبح غير صالحة لما خلقت عليه ، فيفسد العالم . وقد كان بعض الفلاسفة المتأخرين فرض بحثا في إمكان فناء العالم وفرض أسبابا إن وجد واحد منها في هذا العالم ، وعد من جملتها أن تحدث حوادث جوية تفسد عقول البشر كلهم فيتألبون على إهلاك العالم فلو أجرى الله النظام على مقتضى الأهواء من مخالفة الحق لما هو عليه في نفس الأمر كما يشتهون لعاد ذلك بالفساد على جميع العالم فكانوا مشمولين لذلك الفساد لأنهم من جملة ما في السماوات والأرض ، فناهيك بأفن آراء لا تميز بين الضر والنافع لأنفسهما . وكفى بذلك شناعة لكراهيتهم الحق وإبطالا لزعمهم أن ما جاء به الرسول تصرفات مجنون .

التالي السابق


الخدمات العلمية