الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون

جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعا قطعا ، لكل فريق صنم وعبادة خاصة به . فضمير ( تقطعوا ) عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله : وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق .

فالكلام مسوق مساق الذم . ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع ، أي : فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم ، فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيبا من حالهم . ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله : كل حزب بما لديهم فرحون أي : وهم ليسوا بحال من يفرح .

والتقطع أصله مطاوع قطع . واستعمل فعلا متعديا بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل ، ونظيره تخوفه السير ، أي : تنقصه ، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن . فالمعنى : قطعوا أمرهم بينهم قطعا كثيرة ، أي : تفرقوا على [ ص: 73 ] نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه دينا . ويجوز أن يجعل ( تقطعوا ) قاصرا أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله : ( أمرهم ) كأنه قيل : تقطعوا أمرا ، فإن كثيرا من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة . وقد بسطنا القول في معنى فتقطعوا أمرهم بينهم في سورة الأنبياء .

والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم .

والزبر بضم الزاي وضم الموحدة كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب . استعير اسم الكتاب للدين ; لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب ، فيظهر أنها استعارة تهكمية ; إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أديانا وعقائد لو سجلت لكانت زبرا .

وقرأه أبو عمرو بخلاف عنه ( زبرا ) بضم الزاء وفتح الموحدة وهو جمع زبرة بمعنى قطعة .

وجملة كل حزب بما لديهم فرحون تذييل لما قبله ; لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه ، ففي الكلام صفة محذوفة لـ ( حزب ) أي : كل حزب منهم ، بدلالة المقام . والفرح : شدة المسرة ، أي : راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين . والمعنى : أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد ، وذلك يومئ إليه ( لديهم ) المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل ، أي : بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه ، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله : وإن هذه أمتكم أمة واحدة . وقديما كان التحزب مسببا لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق .

والحزب : الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل ، أو المتفقون عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية