الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 260 ] ثم دخلت سنة أربعين وستمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها توفي المستنصر بالله وخلفه ولده المستعصم بالله
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكانت وفاة الخليفة المستنصر بالله أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة ، وله من العمر إحدى وخمسون سنة ، وأربعة أشهر وسبعة أيام ، وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم . وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما ، ودفن بدار الخلافة ، ثم نقل إلى الترب من الرصافة ، وكان جميل الصورة ، حسن السريرة ، جيد السيرة ، كثير الصدقات والبر والصلات ، محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه ، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة بدار الخلافة ، فكان يقف على حافتها ويقول : أترى أعيش حتى أملأها ، وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول : أترى أعيش حتى أنفقها كلها . كان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات . وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء ، لاسيما في شهر رمضان ، وكان يتقصد الجواري اللاتي قد بلغن الأربعين ، فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن ، وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب ، تفرق في المحال ببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام [ ص: 261 ] وغيرهم ، تقبل الله تعالى منه وجزاه خيرا ، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة ، وجعل فيها دار حديث ومارستانا ، وحماما ودار طب ، وجعل لمستحقيها من الجوامك والأطعمة والحلاوات والفواكه ما يحتاجون إليه في أوقاته ، ووقف عليها أوقافا عظيمة حتى قيل : إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلها ، ووقف فيها كتبا نفيسة ليس لها في الدنيا نظير ، فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد ، بل لسائر البلاد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد احترق في هذه السنة المشهد الذي بسامرا المنسوب إلى علي الهادي والحسن العسكري ، وقد كان بناه أرسلان البساسيري في أيام تغلبه على تلك النواحي ، في حدود سنة خمسين وأربعمائة ، فأمر الخليفة المستنصر بإعادته إلى ما كان عليه ، وقد تكلمت الروافض في الاعتذار عن حريق هذا المشهد بكلام طويل بارد لا حاصل له ، وصنفوا فيه أخبارا ، وأنشدوا أشعارا كثيرة لا معنى لها ، وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه المنتظر الذي لا حقيقة له ، لا عين ولا أثر ، ولو لم يبن لكان أجود ، وهو الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بكربلاء ، ابن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم أجمعين ، وقبح من يغلو فيهم ويبغض بسببهم من هو أفضل منهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 262 ] وكان المستنصر - رحمه الله - كريما حليما رئيسا متوددا إلى الناس ، وكان جميل الصورة ، حسن الأخلاق ، بهي المنظر ، عليه نور بيت النبوة ، رضي الله تعالى عنه وأرضاه . وحكي أنه اجتاز راكبا في بعض أزقة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان ، فرأى شيخا كبيرا ، ومعه إناء فيه طعام ، قد حمله من محلة إلى محلة أخرى ، فقال : أيها الشيخ ، لم لا أخذت الطعام من محلتك؟ أو أنت محتاج فتأخذ من المحلتين؟ فقال : لا والله يا سيدي - ولم يعرف أنه الخليفة - ولكني شيخ كبير ، وقد نزل بي الوقت ، وأنا أستحيي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت الطعام ، وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب ، فأدخل بالطعام إلى منزلي حيث لا يراني أحد . فبكى الخليفة - رحمه الله تعالى - وأمر له بألف دينار ، فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحا شديدا ، حتى قيل : إنه انشق قلبه من شدة الفرح ، ولم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوما ، ثم مات فحملت الألف دينار إلى الخليفة; لأنه لم يخلف وارثا ، وقد أنفق منها دينارا واحدا ، فتعجب الخليفة من ذلك ، وقال : شيء قد خرجنا عنه لا يعود إلينا ، تصدقوا بها على فقراء محلته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد خلف من الأولاد ثلاثة; اثنان شقيقان ، وهما أمير المؤمنين المستعصم بالله الذي ولي الخلافة بعده وأبو أحمد عبد الله ، والأمير أبو القاسم عبد العزيز ، وأختهما من أم أخرى كريمة ، صان الله حجابها . وقد رثاه الناس بأشعار كثيرة ، أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 263 ] ولم يستوزر أحدا ، بل أقر أبا الحسن محمد بن محمد القمي على نيابة الوزارة ، ثم كان بعده نصر الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد بن الناقد الذي كان أستاذ دار الخلافة ، والله تعالى أعلم بالصواب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية