الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله : ( عليكم أنفسكم ) أمر بحفظ المال في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اتفقوا على أن سبب نزول هذه الآية أن تميما الداري وأخاه عديا كانا نصرانيين خرجا [ ص: 95 ] إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا ، خرجوا للتجارة ، فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبه بذلك ، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب ثلاثمائة مثقال ، ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ، ففتشوا فوجدوا الصحيفة وفيها ذكر الإناء ، فقالوا لتميم وعدي : أين الإناء ؟ فقالا : لا ندري ، والذي دفع إلينا دفعناه إليكم ، فرفعوا الواقعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( شهادة بينكم ) يعني شهادة ما بينكم ، وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر ، وإنما أضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع ، وحذف (ما) من قوله : ( شهادة بينكم ) جائز لظهوره ، ونظيره قوله : ( هذا فراق بيني وبينك ) [الكهف : 78] أي ما بيني وبينك ، وقوله : ( لقد تقطع بينكم ) [الأنعام : 94] في قراءة من نصب ، وقوله : ( إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ) يعني الشهادة المحتاج إليها عند حضور الموت ، و ( حين الوصية ) بدل من قوله : ( إذا حضر أحدكم ) لأن زمان حضور الموت هو زمان حضور الوصية ، فعرف ذلك الزمان بهذين الأمرين الواقعين فيه ، كما يقال : ائتني إذا زالت الشمس حين صلاة الظهر . والمراد بحضور الموت مشارفته وظهور أمارات وقوعه ، كقوله : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ) [البقرة : 180] قالوا : وقوله : ( إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ) دليل على وجوب الوصية ؛ لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت غير زمان الوصية ، وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين ، وإنما تحصل هذه الملازمة عند وجوب الوصية .

                                                                                                                                                                                                                                            ( اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( اثنان ذوا عدل منكم ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في الآية حذف ، والمراد أن يشهد ذوا عدل منكم ، وتقدير الآية : شهادة ما بينكم عند الموت الموصوف ، هي أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم ، وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوما .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلف المفسرون في قوله : ( منكم ) على قولين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو قول عامة المفسرين أن المراد : اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين ، أي من أهل دينكم وملتكم ، وقوله : ( أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ) يعني أو شهادة آخرين من غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر ، فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر ، وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن [ ص: 96 ] جبير ، وسعيد بن المسيب ، وشريح ومجاهد وابن سيرين وابن جريج . قالوا : إذا كان الإنسان في الغربة ، ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، جاز له أن يشهد اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو عابد الوثن أو أي كافر كان ، وشهادتهم مقبولة ، ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذه الصورة . قال الشعبي رحمه الله : مرض رجل من المسلمين في الغربة ، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليا عليها ، فأخبراه بالواقعة وقدما تركته ووصيته ، فقال أبو موسى : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ثم حلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر بالله أنهما ما كذبا ولا بدلا ، وأجاز شهادتهما . ثم إن القائلين بهذا القول ، منهم من قال : هذا الحكم بقي محكما ، ومنهم من قال : صار منسوخا .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني ، وهو قول الحسن والزهري وجمهور الفقهاء ، أن قوله : ( ذوا عدل منكم ) أي من أقاربكم ، وقوله : ( أو آخران من غيركم ) أي من الأجانب ( إن أنتم ضربتم في الأرض ) أي إن توقع الموت في السفر ، ولم يكن معكم أحد من أقاربكم ، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية . وجعل الأقارب أولا لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق ، وبورثته أرحم وأرأف . واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : أنه تعالى قال في أول الآية : ( ياأيها الذين آمنوا ) فعمم بهذا الخطاب جميع المؤمنين ، فلما قال بعده : ( أو آخران من غيركم ) كان المراد أو آخران من جميع المؤمنين لا محالة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أنه تعالى قال : ( أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ) وهذا يدل على أن جواز الاستشهاد بهذين الآخرين مشروط بكون المستشهد في السفر ، فلو كان هذان الشاهدان مسلمين لما كان جواز الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر ؛ لأن استشهاد المسلم جائز في السفر والحضر .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين من بعد الصلاة ، وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف ، فعلمنا أن هذين الشاهدين ليسا من المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : أن سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من شهادة النصرانيين على بديل وكان مسلما .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الخامسة : ما روينا أن أبا موسى الأشعري قضى بشهادة اليهوديين بعد أن حلفهما ، وما أنكر عليه أحد من الصحابة ، فكان ذلك إجماعا .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السادسة : أنا إنما نجيز إشهاد الكافرين إذا لم نجد أحدا من المسلمين ، والضرورات قد تبيح المحظورات ، ألا ترى أنه تعالى أجاز التيمم والقصر في الصلاة ، والإفطار في رمضان ، وأكل الميتة في حال الضرورة ، والضرورة حاصلة في هذه المسألة ؛ لأن المسلم إذا قرب أجله في الغربة ولم يجد مسلما يشهده على نفسه ولم تكن شهادة الكفار مقبولة ، فإنه يضيع أكثر مهماته ، فإنه ربما وجبت عليه زكوات وكفارات وما أداها ، وربما كان عنده ودائع أو ديون كانت في ذمته . وكما تجوز شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء ، كالحيض والحبل والولادة والاستهلال ؛ لأجل أنه لا يمكن وقوف الرجال على هذه الأحوال ، فاكتفينا فيها بشهادة النساء لأجل الضرورة ، فكذا هاهنا . وأما قول من يقول بأن هذا الحكم صار منسوخا ، فبعيد ؛ لاتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن ، وليس فيها منسوخ ، واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) [الطلاق : 2] والكافر لا يكون عدلا .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 97 ] أجاب الأولون عنه : لم لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب ، لا من كان عدلا في الدين والاعتقاد ، والدليل عليه : أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع ، مع أنهم ليسوا عدولا في مذاهبهم ، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحتراز عن الكذب قبلنا شهادتهم ، فكذا هاهنا . سلمنا أن الكافر ليس بعدل ، إلا أن قوله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) عام ، وقوله في هذه الآية : ( اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ) خاص ، فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر ، واكتفى بشهادة من لا يكون منا في السفر ، فهذه الآية خاصة ، والآية التي ذكرتموها عامة ، والخاص مقدم على العام ، لا سيما إذا كان الخاص متأخرا في النزول ، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة ، فكان تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبا بالاتفاق ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية