الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلى فضيلتين هما : فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد .

[ ص: 16 ] فالأمانة تكون غالبا من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها ، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمن والأمين ، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها ، ولكون دفعها في الغالب عريا عن الإشهاد تبعث محبتها الأمين على التمسك بها وعدم ردها ، فلذلك جعل الله ردها من شعب الإيمان .

وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها قال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ، ويقال للرجل : ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان اهـ .

الوكت : سواد يكون في قشر التمر . والمجل : انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قشر العنبة ينشأ من مس النار الجلد ومن كثرة العمل باليد ، وقوله : ( مثقال حبة من خردل من إيمان ) : هو مصدر آمنه ، أي : وما في قرارة نفسه من إيمان الناس إياه فلا يأتمنه إلا مغرور .

وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها في سورة النساء .

وجمع ( الأمانات ) باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصا على العموم .

وقرأ الجمهور : ( لأماناتهم ) بصيغة الجمع ، وقرأه ابن كثير ( لأمانتهم ) بالإفراد باعتبار المصدر مثل الذين هم في صلاتهم خاشعون .

[ ص: 17 ] والعهد : التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامل كل واحد من الجانبين الآخر به . وسمي عهدا لأنهم يتحالفان بعهد الله ، أي : بأن يكون الله رقيبا عليهما في ذلك لا يفيتهم المؤاخذة على تخلفه ، وتقدم عند قوله تعالى : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه في سورة البقرة .

والوفاء بالعهد من أعظم الخلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة ، فإن المرأين قد يلتزم كل منهما للآخر عملا عظيما فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الالتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملا لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو ، فتسول له نفسه الختر بالعهد شحا أو خورا في العزيمة ، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس ، قال تعالى : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا .

والرعي : مراقبة شيء بحفظه من التلاشي وبإصلاح ما يفسد منه ، فمنه رعي الماشية ، ومنه رعي الناس ، ومنه أطلقت المراعاة على ما يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة . والقائم بالرعي : راع .

فرعي الأمانة : حفظها . ولما كان الحفظ مقصودا لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها .

ورعي العهد مجاز ، أي : ملاحظته عند كل مناسبة .

والقول في تقديم ( لأماناتهم وعهدهم ) على ( راعون ) كالقول في نظائره السابقة ، وكذلك إعادة اسم الموصول .

والجمع بين رعي الأمانات ورعي العهد ; لأن العهد كالأمانة ; لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد .

وذكرهما عقب أداء الزكاة ; لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال ، ولذلك سميت : حق الله ، وحق المال ، وحق المسكين .

التالي السابق


الخدمات العلمية