الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير

جملة كتب عليه أنه من تولاه إلى آخرها صفة ثانية لـ شيطان مريد فالضمير المجرور عائد إلى ( شيطان ) . وكذلك الضمائر في أنه من تولاه فأنه . وأما الضميران البارزان في قوله يضله ويهديه إلى عذاب السعير فعائدان إلى ( من ) الموصولة . أي يضل الشيطان متوليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير . واتفقت القراءات العشر على قراءة ( كتب ) بضم الكاف على أنه مبني للنائب . واتفقت أيضا على فتح الهمزتين من قوله تعالى أنه من تولاه فأنه يضله . والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم ، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير ، فأطلق على لزوم ذلك فعل ( كتب عليه ) أي وجب عليه ، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة . قال الحارث بن حلزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء



[ ص: 194 ] والضمير في ( أنه ) عائد إلى ( شيطان ) وليس ضمير شأن ؛ لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل ( كتب ) . إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة ، والمصدران المنسبكان من قوله أنه من تولاه وقوله فأنه يضله نائب فعل ( كتب ) ومفرع عليه بفاء الجزاء . أي كتب عليه إضلال من تولاه . والتولي : اتخاذ ولي ، أي نصير ، أي من استنصر به .

و ( من ) موصولة وليست شرطية ؛ لأن المعنى على الإخبار الثابت لا على التعليق بالشرط . وهي مبتدأ ثان . والضمير المستتر في قوله ( تولاه ) عائد إلى ( من ) الموصولة . والضمير المنصوب البارز عائد إلى ( شيطان ) . أي أن الذي يتخذ الشيطان وليا فذلك الشيطان يضله .

والفاء في قوله فأنه يضله داخلة على الجملة الواقعة خبرا عن من الموصولة تشبيها لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشبه الموصول بالشرط قصدا لتقوية الإخبار . والمصدر المنسبك من قوله فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبرا عن ( من ) الموصولة . والتقدير : فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير . وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ . والتقدير : ثابتان . ويجوز أن تجعل الفاء في قوله فأنه يضله فاء تفريع ويجعل ما بعدها معطوفا على من تولاه ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع . والتقدير : كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتوليه وترتب إيصاله متوليه إلى عذاب السعير . هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات .

واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في سورة " براءة " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها [ ص: 195 ] لأن مقتضى فعل العلم غير مقتضى فعل ( كتب ) . فلذلك كانت ( من ) في قوله من يحادد شرطية لا محالة وكان الكلام جاريا على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله ( أنه ) ضمير شأن .

ولما كان الضلال مشتهرا في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل ( يضله ) لظهور المعنى . وذكر متعلق فعل ( يهديه ) وهو ( إلى عذاب السعير ) لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهدى إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب .

وفي الجمع بين ( يضله ويهديه ) محسن الطباق بالمضادة . وقد عد من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم النضر بن الحارث . وقيل نزلت فيه . كان كثير الجدل ؛ يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت ترابا . وعد منهم أيضا أبو جهل ، وأبي بن خلف . ومن قال : إن المقصود بقوله ( من يجادل ) معينا خص الآية به . ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب .

التالي السابق


الخدمات العلمية