الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه "وكلمه ربه" ، وناجاه " قال" موسى لربه ( رب أرني أنظر ) ، قال الله له مجيبا : " ( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ) .

وكان سبب مسألة موسى ربه النظر إليه ، ما : -

15073 - حدثني به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : إن موسى عليه السلام لما كلمه ربه ، أحب أن ينظر إليه قال : " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " ، فحف حول الجبل [ بملائكة ] ، وحف حول الملائكة بنار ، وحف حول النار بملائكة ، وحف حول الملائكة بنار ، ثم تجلى ربه للجبل .

15074 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن [ ص: 91 ] أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : ( وقربناه نجيا ) ، [ مريم : 52 ] ، قال : حدثني من لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قربه الرب حتى سمع صريف القلم ، فقال عند ذلك من الشوق إليه : ( رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل ) .

15075 - حدثنا القاسم قال ، حدثني الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر الهذلي قال : لما تخلف موسى عليه السلام بعد الثلاثين ، حتى سمع كلام الله ، اشتاق إلى النظر إليه فقال : ( رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ) ، وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا ، من نظر إلي مات! قال : إلهي سمعت منطقك ، واشتقت إلى النظر إليك ، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك ! قال : فانظر إلى الجبل ، فإن استقر مكانه فسوف تراني .

15076 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( أرني أنظر إليك ) ، قال : أعطني .

15077 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : استخلف موسى هارون على بني إسرائيل وقال : إني متعجل إلى ربي ، فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين . فخرج موسى إلى ربه متعجلا للقيه شوقا إليه ، وأقام هارون في بني إسرائيل ، ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به . فلما كلم الله موسى ، طمع في رؤيته ، فسأل ربه أن ينظر إليه ، فقال الله لموسى : إنك لن تراني ، ( ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) ، الآية . قال ابن إسحاق : فهذا ما وصل إلينا في كتاب الله عن خبر موسى لما طلب النظر إلى ربه ، وأهل الكتاب يزعمون وأهل التوراة : أن قد كان لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة ، ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله ، والله أعلم .

قال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول بأحاديث أهل الكتاب ، إنهم [ ص: 92 ] يجدون في تفسير ما عندهم من خبر موسى حين طلب ذلك إلى ربه ، أنه كان من كلامه إياه حين طمع في رؤيته ، وطلب ذلك منه ، ورد عليه ربه منه ما رد : أن موسى كان تطهر وطهر ثيابه ، وصام للقاء ربه . فلما أتى طور سيناء ، ودنا الله له في الغمام فكلمه ، سبحه وحمده وكبره وقدسه ، مع تضرع وبكاء حزين ، ثم أخذ في مدحته ، فقال : رب ما أعظمك وأعظم شأنك كله! من عظمتك أنه لم يكن شيء من قبلك ، فأنت الواحد القهار ، كأن عرشك تحت عظمتك نارا توقد لك ، وجعلت سرادقا [ من نور ] من دونه سرادق من نور ، فما أعظمك رب وأعظم ملكك! جعلت بينك وبين ملائكتك مسيرة خمسمائة عام . فما أعظمك رب وأعظم ملكك في سلطانك! فإذا أردت شيئا تقضيه في جنودك الذين في السماء أو الذين في الأرض ، وجنودك الذين في البحر ، بعثت الريح من عندك لا يراها شيء من خلقك ، إلا أنت إن شئت ، فدخلت في جوف من شئت من أنبيائك ، فبلغوا لما أردت من عبادك . وليس أحد من ملائكتك يستطيع شيئا من عظمتك ولا من عرشك ولا يسمع صوتك ، فقد أنعمت علي وأعظمت علي في الفضل ، وأحسنت إلي كل الإحسان! عظمتني في أمم الأرض ، وعظمتني عند ملائكتك ، وأسمعتني صوتك ، وبذلت لي كلامك ، وآتيتني حكمتك ، فإن أعد نعماك لا أحصيها ، وإن أرد شكرك لا أستطيعه . دعوتك ، رب ، على [ ص: 93 ] فرعون بالآيات العظام ، والعقوبة الشديدة ، فضربت بعصاي التي في يدي البحر فانفلق لي ولمن معي! ودعوتك حين أجزت البحر ، فأغرقت عدوك وعدوي . وسألتك الماء لي ولأمتي ، فضربت بعصاي التي في يدي الحجر ، فمنه أرويتني وأمتي . وسألتك لأمتي طعاما لم يأكله أحد كان قبلهم ، فأمرتني أن أدعوك من قبل المشرق ومن قبل المغرب ، فناديتك من شرقي أمتي فأعطيتهم المن من مشرق لنفسي ، وآتيتهم السلوى من غربيهم من قبل البحر ، واشتكيت الحر فناديتك ، فظللت عليهم بالغمام . فما أطيق نعماك علي أن أعدها ولا أحصيها ، وإن أردت شكرها لا أستطيعه . فجئتك اليوم راغبا طالبا سائلا متضرعا ، لتعطيني ما منعت غيري . أطلب إليك ، وأسألك يا ذا العظمة والعزة والسلطان ، أن تريني أنظر إليك ، فإني قد أحببت أن أرى وجهك الذي لم يره شيء من خلقك! قال له رب العزة : ألا ترى يا ابن عمران ما تقول؟ تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق! لا يراني أحد فيحيا ، [ ليس في السماوات معمري ، فإنهن قد ضعفن أن يحملن عظمتي ، وليس في الأرض معمري ، فإنها قد ضعفت أن تسع بجندي ] . فلست في مكان واحد فأتجلى لعين تنظر إلي . قال موسى : يا رب ، أن أراك وأموت ، أحب إلي من أن لا أراك وأحيا . قال له رب العزة : يا ابن عمران تكلمت بكلام هو أعظم من سائر الخلق ، لا يراني أحد فيحيا! قال : رب تمم علي نعماك ، وتمم علي فضلك ، وتمم علي إحسانك ، بهذا الذي سألتك ، ليس لي أن أراك [ ص: 94 ] فأقبض ، ولكن أحب أن أراك فيطمئن قلبي . قال له : يا ابن عمران ، لن يراني أحد فيحيا! قال : موسى رب تمم علي نعماك وتمم علي فضلك ، وتمم علي إحسانك بهذا الذي سألتك ، فأموت على أثر ذلك ، أحب إلي من الحياة! فقال الرحمن المترحم على خلقه : قد طلبت يا موسى ، [ وحي ] لأعطينك سؤلك إن استطعت أن تنظر إلي ، فاذهب فاتخذ لوحين ، ثم انظر إلى الحجر الأكبر في رأس الجبل ، فإن ما وراءه وما دونه مضيق لا يسع إلا مجلسك يا ابن عمران . ثم انظر فإني أهبط إليك وجنودي من قليل وكثير ، ففعل موسى كما أمره ربه ، نحت لوحين ثم صعد بهما إلى الجبل فجلس على الحجر ، فلما استوى عليه ، أمر الله جنوده الذين في السماء الدنيا فقال : ضعي أكتافك حول الجبل . فسمعت ما قال الرب ، ففعلت أمره . ثم أرسل الله الصواعق والظلمة والضباب على ما كان يلي الجبل الذي يلي موسى أربعة فراسخ من كل ناحية ، ثم أمر الله ملائكة الدنيا أن يمروا بموسى ، فاعترضوا عليه ، فمروا به طيران النغر ، تنبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ، فقال موسى بن عمران عليه السلام : رب ، إني كنت عن هذا غنيا ، ما ترى عيناي شيئا ، قد ذهب بصرهما من شعاع النور المتصفف على ملائكة ربي! ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية : أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه! فهبطوا أمثال الأسد لهم لجب بالتسبيح والتقديس ، ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى ومما سمع ، فاقشعرت كل شعرة في رأسه وجلده ، ثم قال : ندمت على مسألتي إياك ، فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ [ ص: 95 ] فقال له كبير الملائكة ورأسهم يا موسى ، اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت ! ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة : أن اهبطوا على موسى ، فاعترضوا عليه! فأقبلوا أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد ، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس ، كلجب الجيش العظيم ، كلهب النار . ففزع موسى ، وأسيت نفسه وأساء ظنه ، وأيس من الحياة ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : مكانك يا ابن عمران ، حتى ترى ما لا تصبر عليه! ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة : أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران ! فأقبلوا وهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ، ألوانهم كلهب النار ، وسائر خلقهم كالثلج الأبيض ، أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس ، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم . فاصطكت ركبتاه ، وأرعد قلبه ، واشتد بكاؤه ، فقال كبير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران اصبر لما سألت ، فقليل من كثير ما رأيت ! ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة : أن اهبطوا فاعترضوا على موسى ! فهبطوا عليه سبعة ألوان ، فلم يستطع موسى أن يتبعهم طرفه ، ولم ير مثلهم ، ولم يسمع مثل أصواتهم ، وامتلأ جوفه خوفا ، واشتد حزنه وكثر بكاؤه ، فقال له كبير الملائكة ورأسهم : يا ابن عمران ، مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ! ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة : أن اهبطوا على عبدي الذي طلب أن يراني موسى بن عمران ، واعترضوا [ ص: 96 ] عليه! فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نارا أشد ضوءا من الشمس ، ولباسهم كلهب النار ، إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم ، يقولون بشدة أصواتهم : "سبوح قدوس ، رب العزة أبدا لا يموت" في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا ، وهو يبكي ويقول : "رب اذكرني ، ولا تنس عبدك ، لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت أحرقت ، وإن مكثت مت" ! فقال له كبير الملائكة ورئيسهم : قد أوشكت يا ابن عمران أن يمتلئ جوفك ، وينخلع قلبك ، ويشتد بكاؤك ، فاصبر للذي جلست لتنظر إليه يا ابن عمران ! وكان جبل موسى جبلا عظيما ، فأمر الله أن يحمل عرشه ، ثم قال : مروا بي على عبدي ليراني ، فقليل من كثير ما رأى ! فانفرج الجبل من عظمة الرب ، وغشي ضوء عرش الرحمن جبل موسى ، ورفعت ملائكة السماوات أصواتها جميعا ، فارتج الجبل فاندك ، وكل شجرة كانت فيه ، وخر العبد الضعيف موسى بن عمران صعقا على وجهه ، ليس معه روحه ، فأرسل الله الحياة برحمته ، فتغشاه برحمته وقلب الحجر الذي كان عليه وجعله كالمعدة كهيئة القبة ، لئلا يحترق موسى ، فأقامه الروح ، مثل الأم أقامت جنينها حين يصرع . قال : فقام موسى يسبح الله ويقول : آمنت أنك ربي ، وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ، ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه ، فما أعظمك رب ، وأعظم ملائكتك ، أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، تأمر الجنود الذين عندك فيطيعونك وتأمر السماء وما فيها فتطيعك ، لا تستنكف من ذلك ، ولا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء ، رب تبت إليك ، الحمد لله الذي لا شريك له ، ما أعظمك وأجلك رب العالمين! [ ص: 97 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية