الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ) هذا أيضا متصل بما قبله ، والمراد حثهم على الانقياد لتكاليف الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلا أنها محصورة في نوعين : التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله ، فقوله : ( كونوا قوامين لله ) إشارة إلى النوع الأول وهو التعظيم لأمر الله ، ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية ، وقوله : ( شهداء بالقسط ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال عطاء : يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك ، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال الزجاج : المعنى تبينون عن دين الله ، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ) أي لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا ، وأراد أن لا تعدلوا فيهم لكنه حذف للعلم ، وفي الآية قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنها عامة والمعنى لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم ، بل اعدلوا فيهم وإن أساءوا إليكم ، وأحسنوا إليهم [ ص: 143 ] وإن بالغوا في إيحاشكم ، فهذا خطاب عام ، ومعناه : أمر الله تعالى جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل العدل والإنصاف ، وترك الميل والظلم والاعتساف .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنها مختصة بالكفار فإنها نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فعلى هذا القول كيف يعقل ظلم المشركين مع أن المسلمين أمروا بقتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : يمكن ظلمهم أيضا من وجوه كثيرة : منها أنهم إذا أظهروا الإسلام لا يقبلونه منهم ، ومنها قتل أولادهم الأطفال لاغتمام الآباء ، ومنها إيقاع المثلة بهم ، ومنها نقض عهودهم ، والقول الأول أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) فنهاهم أولا عن أن يحملهم البغضاء على ترك العدل ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا ، ثم ذكر لهم علة الأمر بالعدل وهو قوله : ( هو أقرب للتقوى ) ونظيره قوله : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) ( البقرة : 237 ) أي هو أقرب للتقوى ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هو أقرب إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : هو أقرب إلى الاتقاء من عذاب الله ، وفيه تنبيه عظيم على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله تعالى ، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم ذكر الكلام الذي يكون وعدا مع المطيعين ووعيدا للمذنبين ، وهو قوله تعالى : ( واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) يعني أنه عالم بجميع المعلومات فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية