الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الفصل الثاني في المفتي : ومتى لم يكن في الموضع إلا واحد يصلح للفتوى ، تعين عليه أن يفتي ، وإن كان هناك غيره فهو من فروض الكفايات ، ومع هذا فلا يحل التسارع إليه ، فقد كانت الصحابة - رضي الله عنهم - مع مشاهدتهم الوحي يحيل بعضهم على بعض في الفتوى ، ويحترزون عن استعمال الرأي والقياس ما أمكن .

                                                                                                                                                                        ثم نتكلم في ثلاث [ ص: 99 ] جمل ، إحداها في المفتي ، فيشترط إسلامه وبلوغه وعدالته ، فالفاسق لا تقبل فتواه ، ويلزمه أن يعمل لنفسه باجتهاده ، ويشترط في المفتي أيضا التيقظ وقوة الضبط ، فلا يقبل ممن تغلب عليه الغفلة والسهو ، ويشترط فيه أهلية الاجتهاد ، فلو عرف العامي مسألة أو مسائل بدليلها لم يكن له أن يفتي بها ، ولا لغيره أن يقلده ويأخذ بقوله فيها ، وقيل : يجوز ، وقيل : إن كان نقليا جاز ، وإن كان قياسيا فلا ، والصحيح الأول .

                                                                                                                                                                        والعالم الذي لم يبلغ غاية الاجتهاد كالعامي في أنه لا يجوز تقليده على الصحيح . وموت المجتهد هل يخرجه عن أن يقلد ويؤخذ بقوله ؟ وجهان الصحيح : أنه لا يخرجه ، بل يجوز تقليده كما يعمل بشهادة الشاهد بعد موته ، ولأنه لو بطل قوله بموته ، لبطل الإجماع بموت المجمعين ، ولصارت المسألة اجتهادية ، ولأن الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم ، فلو منعنا تقليد الماضين ، لتركنا الناس حيارى . وبنوا على هذين الوجهين أن من عرف مذهب مجتهد ، وتبحر فيه ، لكن لم يبلغ رتبة الاجتهاد ، هل له أن يفتي ويأخذ بقول ذلك المجتهد ؟ فعلى الصحيح يجوز . هكذا صوروا الفرع ، ولك أن تقول : إذا كان المأخذ ما ذكرنا ، فسواء المتبحر وغيره ، بل العامي إذا عرف حكم تلك المسألة عند ذلك المجتهد فأخبر به ، وأخذ غيره به تقليدا للميت وجب أن يجوز على الصحيح .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الاعتراض ضعيف أو باطل ؛ لأنه إذا لم يكن متبحرا ربما ظن ما ليس مذهبا له مذهبه ، لقصور فهمه وقلة اطلاعه على مظان المسألة واختلاف نصوص ذلك المجتهد ، والمتأخر منها ، والراجح وغير ذلك ، لاسيما مذهب الشافعي - رحمه الله - الذي لا يكاد يعرف ما يفتى به منه إلا أفراد ، لكثرة انتشاره ، واختلاف ناقليه في النقل والترجيح .

                                                                                                                                                                        فإن فرض هذا في مسائل صارت كالمعلومة علما قطعيا عن ذلك المذهب ، كوجوب النية في الوضوء ، والفاتحة في الصلاة ، ووجوب الزكاة في [ ص: 100 ] مال الصبي والمجنون ، ووجوب تبييت النية في صوم الفرض ، وصحة الاعتكاف بلا صوم ، وعدم وجوب نفقة البائن الحامل ، ووجوب القصاص في القتل بالمثقل وغير ذلك عند الشافعي - رضي الله عنه - فهذا حسن محتمل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإذا جوزنا الفتوى إخبارا عن مذهب الميت ، فإن علم من حاله أنه يفتي على مذهب إمام معين ، كفى إطلاق الجواب ، وإلا فلا بد من إضافته إلى صاحب المذهب .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ليس لمجتهد أن يقلد مجتهدا لا ليعمل به ، ولا ليفتي به ، ولا إذا كان قاضيا ليقضي به ، سواء خاف الفوت لضيق وقت أم لا .

                                                                                                                                                                        وقال ابن سريج : له التقليد إذا ضاق الوقت ليعمل به ، لا ليفتي ، وقياسه أن لا يجوز للقضاء وأولى . وفي " الشامل " و " التهذيب " طرد قول ابن سريج في القضاء . وصورة الضيق فيه : أن يتحاكم مسافران والقافلة ترتحل ، ومن قال به ، فقياسه طرده في الفتوى .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        هل يلزم المجتهد تجديد الاجتهاد إذا وقعت الحادثة مرة أخرى ، أو سئل عنها مرة أخرى ، أم يعتمد اجتهاده الأول ؟ وجهان كما سبق في القبلة .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما لزوم التجديد ، وهذا إذا لم يكن ذاكرا لدليل الأولى ، ولم يتجدد ما قد يوجب رجوعه ، فإن كان ذاكرا ، لم يلزمه قطعا ، وإن تجدد ما يوجب الرجوع ، لزمه قطعا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 101 ] فرع

                                                                                                                                                                        المنسوب إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ثلاثة أصناف . أحدها : العوام وتقليدهم الشافعي مثلا مفرع على تقليد الميت وقد سبق .

                                                                                                                                                                        والثاني : البالغون لرتبة الاجتهاد ، وقد ذكرنا أن المجتهد لا يقلد مجتهدا وإنما ينسب هؤلاء إلى الشافعي ؛ لأنهم جروا على طريقته في الاجتهاد واستعمال الأدلة وترتيب بعضها على بعض ، ووافق اجتهادهم اجتهاده وإذا خالف أحيانا لم يبالوا بالمخالفة .

                                                                                                                                                                        والصنف الثالث : المتوسطون وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد في أصول الشرع ، لكنهم وقفوا على أصول الإمام في الأبواب وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه منصوصا له على ما نص عليه ، وهؤلاء مقلدون له تفريعا على تقليد الميت ، وهكذا من يأخذ بقولهم من العوام تقليدا له ، والمعروف للأصحاب أنه لا يقلدهم في أنفسهم ، لأنهم مقلدون ، وقد نجد ما يخالف هذا فإن أبا الفتح الهروي وهو من أصحاب الإمام يقول في الأصول : مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له ، فإن وجد مجتهدا قلده . وإن لم يجده ، ووجد متبحرا في مذهب ، فإنه يفتيه على مذهب نفسه ، وإن كان العامي لا يعتقد مذهبه . وهذا تصريح بأنه يقلد المتبحر في نفسه .

                                                                                                                                                                        وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل مذهب إمامهما ، ومن هذا يتولد وجوه الأصحاب ، فنقول : أيهما يأخذ العامي ؟ فيه ما سنذكره في اختلاف المجتهدين إن شاء الله تعالى ، وإذا نص صاحب المذهب على الحكم والعلة ، ألحق بتلك العلة غير المنصوص بالمنصوص ، وإن اقتصر على الحكم ، فهل يستنبط المتبحر العلة ويعدي الحكم بها ، قال محمد بن يحيى : لا ، والأشبه [ ص: 102 ] بفعل الأصحاب جوازه ؛ لأنهم ينقلون الحكم ، ثم يختلفون في علته ، وكل منهم يطرد الحكم في فروع علته .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ذكر الشيخ أبو إسحاق أنه إذا نص الإمام في واقعة على حكم ، وفي أخرى شبهها على خلافه لا يجوز نقل قوله من إحداهما إلى الأخرى وتخريجهما على قولين ، وأن ما يقتضيه قوله لا يجعل قولا له إلا إذا لم يحتمل كقوله : ثبتت الشفعة في الشقص من الدار ، فيقال : قوله في الحانوت كذلك والمعروف في المذهب خلاف ما قاله ، لكن الأولى أن يقال : إنه قياس أصله أو قياس قوله ، ولا يقال : هو قوله .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأول عنده زجرا وتهديدا في مواضع الحاجة .

                                                                                                                                                                        قلت : المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا : إذا رأى المفتي المصلحة أن يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره ، وله فيه تأويل ، جاز زجرا ، كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن توبة القاتل ، فقال : لا توبة له ، وسأله آخر فقال : له توبة ، ثم قال : أما الأول ، فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته ، أما الثاني ، فجاء [ ص: 103 ] مسكينا قد قتل ، فلم أقنطه ، قال الصيمري : وكذا إن سأله ، فقال : إن قتلت عبدي ، فهل علي قصاص ، فواسع أن يقال : إن قتلته قتلناك ، فعن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل عبده قتلناه " ولأن القتل له معان وهذا كله إذا لم يترتب على إطلاقه مفسدة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الجملة الثانية في المستفتي ، فيلزمه سؤال المفتي عند حدوث مسألته ، وإنما يسأل من عرف علمه وعدالته ، فإن لم يعرف العلم ، بحث عنه بسؤال الناس ، وإن لم يعرف العدالة ، فقد ذكر الغزالي فيه احتمالين أحدهما : أن الحكم كذلك ، وأشبههما الاكتفاء ؛ لأن الغالب من حال العلماء العدالة ، بخلاف البحث عن العلم ، فليس الغالب من الناس العلم ، ثم ذكر احتمالين في أنه إذا وجب البحث ، يفتقر إلى عدد التواتر ، أم يكفي إخبار عدل أو عدلين ؟ أصحهما : الثاني .

                                                                                                                                                                        قلت : الاحتمالان فيما إذا لم تعرف العدالة ، هما فيمن كان مستورا وهو الذي ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه وهما وجهان ذكرهما غيره ، أصحهما الاكتفاء ؛ لأن العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة ، فيعسر على العوام تكليفهم بها ، وهذا الخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين .

                                                                                                                                                                        أما الاحتمالان في اشتراط عدد التواتر ، والاكتفاء بعدل ، فهما محتملان ، ولكن المنقول خلافهما ، فالذي قاله الأصحاب أنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته ، وقيل : لا يكفي الاستفاضة ولا التواتر ، بل إنما يعتمد قوله : أنا أهل للفتوى ؛ لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا وثوق بها ، فقد يكون أصلها التلبيس ، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس ، والصحيح الأول ؛ لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته [ ص: 104 ] لأن الصورة فيمن وثق بدينه . ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته . قال الشيخ أبو إسحاق وغيره : نقبل في أهليته خبر عدل واحد ، وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره ، ولا يعتمد في ذلك خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية