الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى

جواب عن قولهم : لولا يأتينا بآية من ربه وما بينهما اعتراض . والمعنى : كل فريق متربص فأنتم تتربصون بالإيمان ، أي تؤخرون الإيمان إلى أن تأتيكم آية من ربي ، ونحن نتربص أن يأتيكم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، وتفرع عليه جملة " فتربصوا " . ومادة الفعل المأمور به مستعملة في الدوام بالقرينة ، نحو يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ، أي فدوموا على تربصكم .

[ ص: 348 ] وصيغة الأمر فيه مستعملة في الإنذار ، ويسمى المتاركة ، أي نترككم وتربصكم ؛ لأنا مؤمنون بسوء مصيركم . وفي معناه قوله تعالى : فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون . وفي ما يقرب من هذا جاء قوله : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون . وتنوين " كل " تنوين عوض عن المضاف إليه المفهوم من المقام ، كقول الفضل بن عباس اللهبي :

كل له نية في بغض صاحبه بنعمة الله نقليكم وتقلونا



والتربص : الانتظار . تفعل من الربص ، وهو انتظار حصول حدث من خير أو شر ، وقد تقدم في سورة براءة . وفرع على المتاركة إعلامهم بأنهم يعلمون في المستقبل من من الفريقين أصحاب الصراط المستقيم ومن هم المهتدون . وهذا تعريض بأن المؤمنين هم أصحاب الصراط المستقيم المهتدون ؛ لأن مثل هذا الكلام لا يقوله : في مقام المحاجة والمتاركة إلا الموقن بأنه المحق . وفعل " تعلمون " معلق عن العمل لوجود الاستفهام .

والصراط : الطريق . وهو مستعار هنا للدين والاعتقاد ، كقوله : اهدنا الصراط المستقيم .

و " السوي " : فعيل بمعنى مفعول ، أي الصراط المسوى ، وهو مشتق من التسوية ، والمعنى يحتمل أنهم يعلمون ذلك في الدنيا عند انتشار الإسلام وانتصار المسلمين ، فيكون الذين يعلمون ذلك من يبقى من الكفار المخاطبين حين نزول الآية سواء ممن لم يسلموا مثل أبي جهل ، [ ص: 349 ] وصناديد المشركين الذين شاهدوا نصر الدين يوم بدر ، أو من أسلموا مثل أبي سفيان ، وخالد بن الوليد ، ومن شاهدوا عزة الإسلام ، ويحتمل أنهم يعلمون ذلك في الآخرة علم اليقين .

وقد جاءت خاتمة هذه السورة كأبلغ خواتم الكلام لإيذانها بانتهاء المحاجة وانطواء بساط المقارعة .

ومن محاسنها أن فيها شبيه رد العجز على الصدر ؛ لأنها تنظر إلى فاتحة السورة ، وهي قوله : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ؛ لأن الخاتمة تدل على أنه قد بلغ كل ما بعث به من الإرشاد والاستدلال ، فإذا لم يهتدوا به فكفاه انثلاج صدر أنه أدى الرسالة والتذكرة ، فلم يكونوا من أهل الخشية ، فتركهم وضلالهم حتى يتبين لهم أنه الحق .

التالي السابق


الخدمات العلمية