الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى

جملة " ولولا كلمة " عطف على جملة " أفلم يهد لهم " باعتبار ما فيها من التحذير والتهديد والعبرة بالقرون الماضية ، بأنهم جديرون بأن يحل بهم مثل ما حل بأولئك . فلما كانوا قد غرتهم أنفسهم بتكذيب الوعيد لما رأوا من تأخر نزول العذاب بهم فكانوا يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين عقب وعيدهم بالتنبيه على ما يزيل غرورهم بأن سبب التأخير كلمة سبقت من الله بذلك لحكم يعلمها . وهذا في معنى قوله : [ ص: 336 ] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون . والكلمة : مستعملة هنا فيما شأنه أن تدل عليه الكلمات اللفظية من المعاني ، وهو المسمى عند الأشاعرة بالكلام النفسي الراجع إلى علم الله تعالى بما سيبرزه للناس من أمر التكوين أو أمر التشريع ، أو الوعظ . وتقدم قوله تعالى : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما في سورة هود . فالكلمة هنا مراد بها : ما علمه الله من تأجيل حلول العذاب بهم ، فالله تعالى بحكمته أنظر قريشا فلم يعجل لهم العذاب ؛ لأنه أراد أن ينشر الإسلام بمن يؤمن منهم وبذرياتهم . وفي ذلك كرامة للنبيء محمد - صلى الله عليه وسلم - بتيسير أسباب بقاء شرعه وانتشاره ؛ لأنه الشريعة الخاتمة . وخص الله منهم بعذاب السيف والأسر من كانوا أشداء في التكذيب والإعراض ؛ حكمة منه تعالى ، كما قال وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام . و " اللزام " بكسر اللام مصدر لازم ، كالخصام ، استعمل مصدرا لفعل لزم الثاني ؛ لقصد المبالغة في قوة المعنى ، كأنه حاصل من عدة ناس . ويجوز أن يكون وزن فعال بمعنى فاعل ، مثل لزاز في قول لبيد :

منا لزاز كريهة جذامها



وسداد في قول العرجي :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا     ليوم كريهة وسداد ثغر



أي لكان الإهلاك الشديد لازما لهم .

[ ص: 337 ] فانتصب " لزاما " على أنه خبر " كان " ، واسمها ضمير راجع إلى الإهلاك المستفاد من " كم أهلكنا " ، أي لكان الإهلاك الذي أهلك مثله من قبلهم من القرون - وهو الاستئصال - لازما لهم .

" وأجل مسمى " عطف على " كلمة " . والتقدير : ولولا كلمة وأجل مسمى يقع عنده الهلاك لكان إهلاكهم لزاما . والمراد بالأجل : ما سيكشف لهم من حلول العذاب ؛ إما في الدنيا بأن حل برجال منهم وهذا عذاب البطشة الكبرى يوم بدر ، وإما في الآخرة وهو ما سيحل بمن ماتوا كفارا منهم . وفي معناه قوله تعالى : قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما . ويظهر أنه شاع في عصر الصحابة تأويل اسم اللزام أنه عذاب توعد الله به مشركي قريش . وقيل : هو عذاب يوم بدر . ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال : خمس قد مضين : الدخان ، والقمر ، والروم ، والبطشة ، واللزام فسوف يكون لزاما . يريد بذلك إبطال أن يكون اللزام مترقبا في آخر الدنيا . وليس في القرآن ما يحوج إلى تأويل اللزام بهذا كما علمت .

وفرع على ذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يقولون من التكذيب وبالوعيد لتأخير نزوله بهم . والمعنى : فلا تستعجل لهم العذاب واصبر على تكذيبهم ، ونحوه ، الشامل له الموصول في قوله : "ما يقولون " . وأمره بأن يقبل على مزاولة تزكية نفسه وتزكية أهله بالصلاة ، والإعراض عما منع الله الكفار برفاهية العيش ، ووعده بأن العاقبة للمتقين .

فالتسبيح هنا مستعمل في الصلاة لاشتمالها على تسبيح الله وتنزيهه . والباء في قوله : بحمد ربك للملابسة ، وهي ملابسة الفاعل لفعله ، أي سبح حامدا ربك ، فموقع المجرور موقع الحال .

[ ص: 338 ] والأوقات المذكورة هي أوقات الصلاة ، وهي وقت الصبح قبل طلوع الشمس . ووقتان قبل غروبها وهما الظهر والعصر ، وقيل المراد صلاة العصر . وأما الظهر فهي قوله : " وأطراف النهار " كما سيأتي .

و " من " في قوله : " من آناء الليل " ابتدائية متعلقة بفعل " فسبح " ، وذلك وقتا المغرب والعشاء . وهذا كله من المجمل الذي بينته السنة المتواترة . وأدخلت الفاء على " فسبح " ؛ لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان . فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله : - صلى الله عليه وسلم - : ففيهما فجاهد ، أي الأبوين ، وقوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك وقد تقدم في سورة الإسراء . ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه .

وآناء الليل : ساعاته ، وهو جمع إني - بكسر الهمزة وسكون النون وياء في آخره - . ويقال : إنو ، بواو في آخره ، ويقال : إنى ، بألف في آخره ، مقصورا . ويقال : أناء ، بفتح الهمزة في أوله وبمد في آخره ، . وجمع ذلك على آناء بوزن أفعال .

وقوله : " وأطراف النهار " بالنصب عطف على قوله : " قبل طلوع الشمس " ، وطرف الشيء منتهاه . قيل : المراد أول النهار وآخره ، وهما وقتا الصبح والمغرب ، فيكون من عطف البعض على الكل ؛ للاهتمام بالبعض ، كقوله : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى . وقيل : المراد طرف سير الشمس في قوس الأفق ، وهو بلوغ سيرها وسط الأفق المعبر عنه بالزوال ، وهما طرفان : طرف النهاية وطرف الزوال ، وهو [ ص: 339 ] انتهاء النصف الأول وابتداء النصف الثاني من القوس ، كما قال تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار . وعلى هذا التفسير يتجه أن يكون ذكر الطرفين معا لوقت صلاة واحدة أن وقتها ما بين الخروج من أحد الطرفين والدخول في الطرف الآخر ، وتلك حصة دقيقة .

وعلى التفسيرين فللنهار طرفان لا أطراف ، كما قال تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار . فالجمع في قوله : " وأطراف النهار " من إطلاق اسم الجمع على المثنى ، وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس ، كقوله تعالى : فقد صغت قلوبكما ، والذي حسنه هنا مشاكلة الجمع للجمع في قوله : ومن آناء الليل فسبح .

وقرأ الجمهور " لعلك ترضى " بفتح التاء بصيغة البناء للفاعل ، أي رجاء لك أن تنال من الثواب عند الله ما ترضى به نفسك . ويجوز أن يكون المعنى : لعل في ذلك المقدار الواجب من الصلوات ما ترضى به نفسك دون زيادة في الواجب رفقا بك وبأمتك . ويبينه قوله - صلى الله عليه وسلم - : وجعلت قرة عيني في الصلاة .

وقرأ الكسائي ، وأبو بكر عن عاصم " ترضى " بضم التاء أي يرضيك ربك ، وهو محتمل للمعنيين .

التالي السابق


الخدمات العلمية