الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي .

ظاهر حال الفاء التفريعية أن يكون ما بعدها صادرا من قائل الكلام المفرع عليه . والمعنى : فمثل قذفنا زينة القوم ، أي في النار ، ألقى السامري شيئا من زينة القوم فأخرج لهم عجلا . والمقصود من هذا التشبيه التخلص إلى قصة صوغ العجل الذي عبدوه . وضميرا الغيبة في قوله ( فأخرج لهم ) وقوله فقالوا عائدان إلى غير المتكلمين . علق المتكلمون الإخراج والقول بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعوا دهماء القوم ، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى . وعلى هذا درج جمهور المفسرين ، فيكون من [ ص: 286 ] تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى ، ويكون ضمير فأخرج لهم التفاتا قصد القائلون به التبري من أن يكون إخراج العجل لأجلهم ، أي أخرجه لمن رغبوا في ذلك .

وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كله من جانب الله ، وهو اختيار أبي مسلم ، فيكون اعتراضا وإخبارا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللأمة . وموقع الفاء يناقض هذا لأن الفاء لا ترد للاستئناف على التحقيق ، فتكون الفاء للتفريع تفريع أخبار على أخبار . والمعنى : فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامري ما بيده من النار ليذوب ويصوغها ؛ فأخرج لهم من ذلك عجلا جسدا . فإن فعل ( ألقى ) يحكي حالة مشبهة بحالة قذفهم مصوغ القبط . والقذف والإلقاء مترادفان ، شبه أحدهما بالآخر .

والجسد : الجسم ذو الأعضاء سواء كان حيا أم لا ؛ لقوله تعالى ( وألقينا على كرسيه جسدا ) . قيل : هو شق طفل ولدته إحدى نسائه كما ورد في الحديث . قال الزجاج : الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما هو الجثة ، أي أخرج لهم صورة عجل مجسدة بشكله وقوائمه وجوانبه ، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب . وفي سفر الخروج أنه كان من ذهب .

والإخراج : إظهار ما كان محجوبا . والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمه .

والخوار : صوت البقر . وكان الذي صنع لهم العجل عارفا بصناعة الحيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه .

[ ص: 287 ] وصنع لهم السامري صنما على صورة عجل ؛ لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل " إيبيس " ، فلما رأوا ما صاغه السامري في صورة معبود عرفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خوارا ، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبروا عنه بقولهم : هذا إلهكم وإله موسى ؛ لأنهم رأوه من ذهب أو فضة ، فتوهموا أنه أفضل من العجل " إيبيس " . وإذ قد كانوا يثبتون إلها محجوبا عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته ، فقالوا لموسى : أرنا الله جهرة ، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة . وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التوراة غير ملائمة للنظر السليم . وتفريع " فنسي " يحتمل أن يكون تفريعا على فقالوا هذا إلهكم تفريع علة على معلول ، فالضمير عائد إلى السامري ، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقاه من هدي; أو تفريع معلول على علة ، أي قال ذلك ، فكان قوله : سببا في نسيانه ما كان عليه من هدي ، إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك ، فحرمه التوفيق من بعد .

والنسيان : مستعمل في الإضاعة ، كقوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ، وقوله : الذين هم عن صلاتهم ساهون . وعلى هذا يكون قوله : " فنسي " من الحكاية لا من المحكي ، والضمير عائد إلى السامري ، فينبغي على هذا أن يتصل بقوله : " أفلا يرون " ويكون اعتراضا . وجعله جمع من المفسرين عائدا إلى موسى ، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه ، أي غفل عنه ، وذهب إلى الطور يفتش عليه وهو بين أيديكم ، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير .

والنسيان يكون مستعملا مجازا في الغفلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية