الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 269 ) مسألة : قال : وملاقاة جسم الرجل للمرأة لشهوة المشهور من مذهب أحمد رحمه الله ، أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ، ولا ينقضه لغير شهوة . وهذا قول علقمة وأبي عبيدة والنخعي والحكم وحماد ومالك والثوري وإسحاق والشعبي ، فإنهم قالوا : يجب الوضوء على من قبل لشهوة ، ولا يجب على من قبل لرحمة .

                                                                                                                                            وممن أوجب الوضوء في القبلة ابن مسعود وابن عمر والزهري [ ص: 124 ] وزيد بن أسلم ومكحول ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز والشافعي قال أحمد : المدنيون والكوفيون ما زالوا يرون أن القبلة من اللمس تنقض الوضوء ، حتى كان بآخرة وصار فيهم أبو حنيفة ، فقالوا : لا تنقض الوضوء . ويأخذون بحديث عروة ، ونرى أنه غلط . وعن أحمد . رواية ثانية ، لا ينقض اللمس بحال .

                                                                                                                                            وروي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن ومسروق ، وبه قال أبو حنيفة : إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها لما روى حبيب ، عن عروة ، عن عائشة ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل امرأة من نسائه ، وخرج إلى الصلاة ، ولم يتوضأ } . رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وغيرهما . وهو حديث مشهور رواه إبراهيم التيمي عن عائشة أيضا ، ولأن الوجوب من الشرع ، ولم يرد بهذا شرع ، ولا هو في معنى ما ورد الشرع به ، وقوله : { أو لامستم النساء } أراد به الجماع ، بدليل أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس ; ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة ، والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين ، وعن أحمد ، رواية ثالثة أن اللمس ينقض بكل حال .

                                                                                                                                            وهو مذهب الشافعي ، لعموم قوله تعالى : { أو لامستم النساء } وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين ، قال الله تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا : { وأنا لمسنا السماء } وقال الشاعر :

                                                                                                                                            لمست بكفي كفه أطلب الغنى

                                                                                                                                            وقرأها ابن مسعود : { أو لامستم النساء } وأما حديث القبلة فكل طرقه معلولة ، قال يحيى بن سعيد : احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء . وقال أحمد : نرى أنه غلط الحديثين جميعا - يعني حديث إبراهيم التيمي وحديث عروة فإن إبراهيم التيمي لا يصح سماعه من عائشة ، وعروة المذكور هاهنا عروة المزني ، ولم يدرك عائشة ، كذلك قاله سفيان الثوري قال : ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني ليس هو عروة بن الزبير .

                                                                                                                                            وقال إسحاق : لا تظنوا أن حبيبا لقي عروة . وقال : وقد يمكن أن يقبل الرجل امرأته لغير شهوة برا بها ، وإكراما لها ، ورحمة ، ألا ترى إلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم من سفر فقبل فاطمة . فالقبلة تكون لشهوة ولغير شهوة . ويحتمل أنه قبلها من وراء حائل ، واللمس لغير شهوة لا ينقض ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمس زوجته في الصلاة وتمسه . ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله .

                                                                                                                                            { قالت عائشة . إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة ، فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي . } متفق عليه . وفي حديث آخر فإذا أراد أن يوتر مسني برجله

                                                                                                                                            وروى الحسن قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في مسجده في الصلاة فقبض على قدم عائشة غير متلذذ } رواه إسحاق بإسناده ، والنسائي . وعن عائشة { قالت فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجعلت أطلبه ، فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان ، وهو ساجد ، وهو يقول : أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك } رواهما النسائي ورواه مسلم { وصلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملا أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ، إذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها } متفق عليه والظاهر أنه لا يسلم من مسها ; ولأنه لمس لغير شهوة فلم ينقض ، كلمس ذوات المحارم .

                                                                                                                                            يحققه [ ص: 125 ] أن اللمس ليس بحدث في نفسه وإنما نقض لأنه يفضي إلى خروج المذي أو المني ، فاعتبرت الحالة التي تفضي إلى الحدث فيها ، وهي حالة الشهوة .

                                                                                                                                            ( 270 ) فصل : ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم ، والكبيرة والصغيرة .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : لا ينقض لمس ذوات المحارم ، ولا الصغيرة ، في أحد القولين ; لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج ، أشبه لمس الرجل الرجل . ولنا ، عموم النص ، واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة ، ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع . فأما لمس الميتة ، ففيه وجهان : أحدهما ، ينقض لعموم الآية . والثاني ، لا ينقض .

                                                                                                                                            اختاره الشريف أبو جعفر وابن عقيل ; لأنها ليست محلا للشهوة ، فهي كالرجل .

                                                                                                                                            ( 271 ) فصل : ولا يختص اللمس الناقض باليد ، بل أي شيء منه لاقى شيئا من بشرتها مع الشهوة ، انتقض وضوءه به ، سواء كان عضوا أصليا ، أو زائدا . وحكي عن الأوزاعي : لا ينقض اللمس إلا بأحد أعضاء الوضوء . ولنا ، عموم النص ، والتخصيص بغير دليل تحكم لا يصار إليه . ولا ينقض مس شعر المرأة ، ولا ظفرها ، ولا سنها ، وهذا ظاهر مذهب الشافعي . ولا ينقض لمسها بشعره ولا سنه ولا ظفره ; لأن ذلك مما لا يقع الطلاق على المرأة بتطليقه ولا الظهار .

                                                                                                                                            ولا ينجس الشعر بموت الحيوان ، ولا بقطعه منه في حياته .

                                                                                                                                            ( 272 ) فصل : وإن لمسها من وراء حائل ، لم ينتقض وضوءه ، في قول أكثر أهل العلم . وقال مالك والليث ينقض إن كان ثوبا رقيقا . وكذلك قال ربيعة : إذا غمزها من وراء ثوب رقيق لشهوة ; لأن الشهوة موجودة . وقال المروذي : لا نعلم أحدا قال ذلك غير مالك والليث .

                                                                                                                                            لنا ، أنه لم يلمس جسم المرأة ; فأشبه ما لو لمس ثيابها ، والشهوة بمجردها لا تكفي ، كما لو مس رجلا بشهوة ، أو وجدت الشهوة من غير لمس .

                                                                                                                                            ( 273 ) فصل : وإن لمست امرأة رجلا ، ووجدت الشهوة منهما ، فظاهر كلام الخرقي نقض وضوئهما ، بملاقاة بشرتهما .

                                                                                                                                            وقد سئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها ؟ قال : ما سمعت فيه شيئا ، ولكن هي شقيقة الرجل . يعجبني أن تتوضأ ; لأن المرأة أحد المشتركين في اللمس ، فهي كالرجل . وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشهوة ; لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين ، لا فرق فيه بين اللامس والملموس ، كالتقاء الختانين . وفيه رواية أخرى : لا ينتقض وضوء المرأة ، ولا وضوء الملموس وللشافعي قولان كالروايتين . ووجه عدم النقض أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء ، فيتناول اللامس من الرجال ، فيختص به النقض ، كلمس الفرج ; ولأن المرأة والملموس لا نص فيه ، ولا هو في معنى المنصوص ; لأن اللمس من الرجل مع الشهوة مظنة لخروج المذي الناقض ، فأقيم مقامه ، ولا يوجد ذلك في حق المرأة ، والشهوة من اللامس أشد منها في الملموس ، وأدعى إلى الخروج ، فلا يصح القياس عليهما ، وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل . [ ص: 126 ]

                                                                                                                                            ( 274 ) فصل : ولا ينتقض الوضوء بلمس عضو مقطوع من المرأة ; لزوال الاسم ، وخروجه عن أن يكون محلا للشهوة ولا بمس رجل ولا صبي ، ولا بمس المرأة المرأة ; لأنه ليس بداخل في الآية ; ولا هو في معنى ما في الآية ; لأن المرأة محل لشهوة الرجل شرعا وطبعا ، وهذا بخلافه .

                                                                                                                                            ولا بمس البهيمة ; لذلك . ولا بمس خنثى مشكل ; لأنه لا يعلم كونه رجلا ولا امرأة . ولا بمس الخنثى لرجل أو امرأة ; لذلك ، والأصل الطهارة ، فلا تزول بالشك ولا أعلم في هذا كله خلافا ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية