الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 193 ] وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى .

أعقب تثبيت الرسول على التبليغ والتنويه بشأن القرآن بالنسبة إلى من أنزله ومن أنزل عليه بذكر قصة موسى - عليه السلام - ليتأسى به في الصبر على تحمل أعباء الرسالة ومقاساة المصاعب . وتسلية له بأن الذين كذبوه سيكون جزاؤهم جزاء من سلفهم من المكذبين ، ولذلك جاء في عقب قصة موسى قوله تعالى ( وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه ) . وجاء بعد ذكر قصة آدم وأنه لم يكن له عزم ( فاصبر على ما يقولون ) الآيات .

فجملة ( وهل أتاك حديث موسى ) عطف على جملة ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) . الغرض هو مناسبة العطف كما تقدم قريبا وهذه القصة تقدم بعضها في سورة الأعراف وسورة يونس .

والاستفهام مستعمل في التشويق إلى الخبر مجازا وليس مستعملا في حقيقته سواء كانت هذه القصة قد قصت على النبيء - صلى الله عليه وسلم - من قبل أم كان هذا أول قصصها عليه . وفي قوله ( إذ رأى نارا ) زيادة في التشويق كما يأتي قريبا .

وأوثر حرف ( هل ) في هذا المقام لما فيه من معنى التحقيق لأن ( هل ) في الاستفهام مثل ( قد ) في الإخبار .

والحديث : الخبر . وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر حدث في الخارج ، ويجمع على أحاديث على غير قياس . قال الفراء : " واحد [ ص: 194 ] الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعا للحديث " اهـ . يعني استغنوا به عن صيغة فعلاء .

و ( إذ ) ظرف للحديث . وقد تقدم نظائره . وخص هذا الظرف بالذكر لأنه يزيد تشويقا إلى استعلام كنه الخبر ، لأن رؤية النار تحتمل أحوالا كثيرة . ورؤية النار تدل على أن ذلك كان بليل ، وأنه كان بحاجة إلى النار ، ولذلك فرع عليه : ( فقال لأهله امكثوا ) إلخ .

والأهل : الزوج والأولاد . وكانوا معه بقرينة الجمع في قوله امكثوا . وفي سفر الخروج من التوراة فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر .

وقرأ الجمهور بكسر هاء ضمير أهله على الأصل . وقرأه حمزة ، وخلف بضم الهاء تبعا لضمة همزة الوصل في ( امكثوا ) .

والإيناس : الإبصار البين الذي لا شبهة فيه .

وتأكيد الخبر ب إن لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة .

والقبس : ما يؤخذ اشتعاله من اشتعال شيء ويقبس ، كالجمرة من مجموع الجمر والفتيلة ونحو ذلك ، وهذا يقتضي أنه كان في ظلمة ولم يجد ما يقتدح به . وقيل : اقتدح زنده فصلد ، أي لم يقدح .

ومعنى ( أو أجد على النار هدى ) : أو ألقى عارفا بالطريق قاصدا السير فيما أسير فيه فيهديني إلى السبيل . قيل : كان موسى قد خفي عليه الطريق من شدة الظلمة وكان يحب أن يسير ليلا .

[ ص: 195 ] و ( أو ) هنا للتخيير ، لأن إتيانه بقبس أمر محقق ، فهو إما أن يأخذ القبس لا غير . وإما أن يزيد فيجد صاحب النار قاصدا الطريق مثله فيصحبه .

وحرف ( على ) في قوله ( أو أجد على النار هدى ) مستعمل في الاستعلاء المجازي ، أي شدة القرب من النار قربا أشبه الاستعلاء ، وذلك أن مشعل النار يستدني منها للاستنارة بضوئها أو للاصطلاء بها . قال الأعشى :

وبات على النار الندى والمحلق



وأراد بالهدى صاحب الهدى .

وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهاما إياه أنه سيجد عند تلك النار هدى عظيما ، ويبلغ قومه منه ما فيه نفعهم .

وإظهار النار لموسى رمز رباني لطيف ؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزا على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية