الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب )

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 112 ] قوله تعالى : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) وهذا أيضا متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده : ( ماذا أحل لهم ) كأنه قيل : يقولون لك ماذا أحل لهم ، وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم ، ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك ، بل إنما يقولون ماذا أحل لنا ، بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم ، بل هو بيان لكيفية الواقعة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الواحدي : " ماذا " إن جعلته اسما واحدا فهو رفع بالابتداء ، وخبره " أحل " وإن شئت جعلت " ما " وحدها اسما ، ويكون خبرها " ذا " و " أحل " من صلة " ذا " لأنه بمعنى : ما الذي أحل لهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام . فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة ، فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال ، وأكد هذه الآية بقوله : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) [الأعراف : 32] وبقوله : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) [الأعراف : 157] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضا طيبا تشبيها بما هو مستلذ ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة ، فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات ههنا المحللات ، وإلا لصار تقدير الآية : قل أحل لكم المحللات ، ومعلوم أن هذا ركيك ، فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى ، فصار التقدير : أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة ، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ، ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [البقرة : 29] فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض ، إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال : ( ويحرم عليهم الخبائث ) [الأعراف ، 157] ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلا كبيرا ، وقانونا مرجوعا إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة ، منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي - رحمه الله - . وقال أبو حنيفة - رحمه الله - ليس بمباح . حجة الشافعي - رحمه الله - أنه مستلذ مستطاب ، والعلم به ضروري ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالا لقوله : ( أحل لكم الطيبات ) ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي - رحمه الله - مباح ، وعند أبي حنيفة حرام ، حجة الشافعي - رحمه الله - أنه مستطاب مستلذ ، فوجب أن يحل لقوله : ( أحل لكم الطيبات ) ويدل أيضا على صحة قول الشافعي - رحمه الله - في هاتين المسألتين قوله تعالى : ( إلا ما ذكيتم ) استثنى المذكاة ثم فسر الذكاة بما بين اللبة والصدر ، وقد حصل ذلك في الخيل ، فوجب أن تكون مذكاة ، فوجب أن تحل لعموم قوله : ( إلا ما ذكيتم ) وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضا حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسيا فهي مذكاة ، وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس جزءا من ماهية الذكاة ، وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكنا ، فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك ، وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله : ( إلا ما ذكيتم ) ومنها أن لحم الحمر الأهلية [ ص: 113 ] مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهاتين الآيتين ، إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية