الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    [ ص: 468 ] تفسير سورة القارعة وهي مكية .

                                                                                                                                                                                                    بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                    ( القارعة ( 1 ) ما القارعة ( 2 ) وما أدراك ما القارعة ( 3 ) يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ( 4 ) وتكون الجبال كالعهن المنفوش ( 5 ) فأما من ثقلت موازينه ( 6 ) فهو في عيشة راضية ( 7 ) وأما من خفت موازينه ( 8 ) فأمه هاوية ( 9 ) وما أدراك ما هيه ( 10 ) نار حامية ( 11 ) )

                                                                                                                                                                                                    ( القارعة ) من أسماء يوم القيامة ، كالحاقة ، والطامة ، والصاخة ، والغاشية ، وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                    ثم قال معظما أمرها ومهولا لشأنها : ( وما أدراك ما القارعة ) ؟ ثم فسر ذلك بقوله : ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ) أي : في انتشارهم وتفرقهم ، وذهابهم ومجيئهم ، من حيرتهم مما هم فيه ، كأنهم فراش مبثوث كما قال في الآية الأخرى : ( كأنهم جراد منتشر )

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) يعني : قد صارت كأنها الصوف المنفوش ، الذي قد شرع في الذهاب والتمزق .

                                                                                                                                                                                                    قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، والسدي : " العهن " الصوف .

                                                                                                                                                                                                    ثم أخبر تعالى عما يئول إليه عمل العاملين ، وما يصيرون إليه من الكرامة أو الإهانة ، بحسب أعمالهم ، فقال : ( فأما من ثقلت موازينه ) أي : رجحت حسناته على سيئاته ( فهو في عيشة راضية ) يعني : في الجنة . ( وأما من خفت موازينه ) أي : رجحت سيئاته على حسناته .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( فأمه هاوية ) قيل : معناه : فهو ساقط هاو بأم رأسه في نار جهنم . وعبر عنه بأمه - يعني دماغه - روي نحو هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي صالح ، وقتادة - قال قتادة : يهوي في النار على رأسه ، وكذا قال أبو صالح : يهوون في النار على رءوسهم .

                                                                                                                                                                                                    وقيل : معناه : ( فأمه ) التي يرجع إليها ، ويصير في المعاد إليها ( هاوية ) وهي اسم من أسماء النار .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جرير : وإنما قيل : للهاوية أمه ; لأنه لا مأوى له غيرها .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 469 ]

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن زيد : الهاوية : النار ، هي أمه ومأواه التي يرجع إليها ويأوي إليها ، وقرأ : ( ومأواهم النار ) [ آل عمران : 151 ] .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن أبي حاتم : وروي عن قتادة أنه قال : هي النار ، وهي مأواهم . ولهذا قال تعالى مفسرا للهاوية : ( وما أدراك ما هيه نار حامية )

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الأشعث بن عبد الله الأعمى قال : إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين ، فيقولون : روحوا أخاكم ، فإنه كان في غم الدنيا . قال : ويسألونه : وما فعل فلان ؟ فيقول : مات ، أوما جاءكم ؟ فيقولون : ذهب به إلى أمه الهاوية

                                                                                                                                                                                                    وقد رواه ابن مردويه من طريق أنس بن مالك مرفوعا ، بأبسط من هذا . وقد أوردناه في كتاب صفة النار ، أجارنا الله منها بمنه وكرمه .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( نار حامية ) أي : حارة شديدة الحر ، قوية اللهيب والسعير .

                                                                                                                                                                                                    قال أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " . قالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية . فقال : " إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا " .

                                                                                                                                                                                                    ورواه البخاري ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك . ورواه مسلم ، عن قتيبة ، عن المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد به ، وفي بعض ألفاظه : " أنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا ، كلهن مثل حرها " .

                                                                                                                                                                                                    وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد - وهو ابن سلمة - ، عن محمد بن زياد - سمع أبا هريرة يقول : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : " نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " . فقال رجل : إن كانت لكافية . فقال : " لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا حرا فحرا " .

                                                                                                                                                                                                    تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو على شرط مسلم .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 470 ]

                                                                                                                                                                                                    وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا سفيان ، عن أبي الزياد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وعمرو ، عن يحيى بن جعدة - : " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد " .

                                                                                                                                                                                                    وهذا على شرط الصحة ولم يخرجوه من هذا الوجه ، وقد رواه مسلم في صحيحه من طريق [ ابن أبي الزناد ] .

                                                                                                                                                                                                    ورواه البزار من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري : " ناركم هذه جزء من سبعين جزءا " .

                                                                                                                                                                                                    وقد قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد العزيز - هو ابن محمد الدراوردي - ، عن سهيل عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم " .

                                                                                                                                                                                                    تفرد به أيضا من هذا الوجه ، وهو على شرط مسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا معن بن عيسى القزاز ، عن مالك ، عن عمه أبي سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سوادا من دخان ناركم هذه بسبعين ضعفا " .

                                                                                                                                                                                                    وقد رواه أبو مصعب ، عن مالك ولم يرفعه . وروى الترمذي وابن ماجه ، عن عباس الدوري ، عن يحيى ابن أبي بكير : حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة " .

                                                                                                                                                                                                    وقد روي هذا من حديث أنس وعمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 471 ]

                                                                                                                                                                                                    وجاء في الحديث - عند الإمام أحمد - من طريق أبي عثمان النهدي ، عن أنس - وأبي نضرة العبدي ، عن أبي سعيد وعجلان مولى المشمعل ، عن أبي هريرة - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان يغلي منهما دماغه " .

                                                                                                                                                                                                    وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب ، أكل بعضي بعضا ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف . فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها ، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها " .

                                                                                                                                                                                                    وفي الصحيحين : " إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم " . آخر تفسير سورة " القارعة "

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية