الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فاتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حميئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا السبب : الوسيلة . المراد هنا معنى مجازي وهو الطريق لأن الطريق وسيلة إلى المكان المقصود وقرينة المجاز ذكر الاتباع والبلوغ [ ص: 25 ] في قوله ( فاتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس ) . والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى وآتيناه من كل شيء سببا إظهار اسم السبب دون إضماره لأنه لما أريد به معنى غير ما أريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيها على اختلاف المعنيين ، أي فاتبع طريقا للسير وكان سيره للغزو ، كما دل عليه قوله حتى إذا بلغ مغرب الشمس . ولم يعد أهل اللغة معنى الطريق في معاني لفظ السبب لعلهم رأوه لم يكثر وينتشر في الكلام . ويظهر أن قوله تعالى أسباب السماوات من هذا المعنى ، وكذلك قول زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه



أي هاب طرق المنايا أن يسلكها تنله المنايا ، أي تأتيه ، فذلك مجاز بالقرينة .

والمراد بـ مغرب الشمس مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته . وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة ، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل . والأشبه أن يكون ذو القرنين قد بلغ بحر الخزر وهو بحيرة قزوين فإنها غرب بلاد الصين .

والقول في تركيب حتى إذا بلغ مغرب الشمس كالقول في قوله حتى إذا ركبا في السفينة خرقها . والعين : منبع ماء . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص في عين حمئة مهموزا مشتقا من الحمأة ، وهو الطين الأسود . والمعنى : عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف .

[ ص: 26 ] وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف ( في عين حامية ) بألف بعد الحاء وياء بعد الميم ، أي حارة من الحمو وهو الحرارة ، أي أن ماءها سخن .

ويظهر أن هذه العين من عيون النفط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة باكو ، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفا يومئذ . والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة .

وتنكير قوما يؤذن بأنهم أمة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم .

فجملة قلنا يا ذا القرنين استئناف بياني لما أشعر به تنكير قوما من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين .

وقد دل قوله إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا على أنهم مستحقون للعذاب ، فدل على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل .

وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام ، أي ألقينا في نفسه ترددا بين أن يبادر استئصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل ، ويكون قوله قال أما من ظلم ، أي قال في نفسه معتمدا على حالة وسط بين صورتي التردد .

وقيل : إن ذا القرنين كان نبيئا يوحى إليه فيكون القول كلاما موحى به إليه يخيره فيه بين الأمرين ، مثل التخيير الذي في قوله تعالى فإما منا بعد وإما فداء ، ويكون قوله قال أما من ظلم جوابا منه إلى ربه . وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله ففهمناها سليمان . وحسنا مصدر . وعدل عن أن تحسن إليهم إلى أن تتخذ فيهم حسنا مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتخذ فيهم نفس [ ص: 27 ] الحسن ، مثل قوله تعالى وقولوا للناس حسنا . وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما .

والظلم : الشرك ، بقرينة قسيمه في قوله وأما من آمن وعمل صالحا . واجتلاب حرف الاستقبال في قوله فسوف نعذبه يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصر على الكفر يعذبه . وقد صرح بهذا المفهوم في قوله وأما من آمن وعمل صالحا أي آمن بعد كفره .

ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن ، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير .

والمعنى : فسوف نعذبه عذاب الدنيا ولذلك أسنده إلى ضميره ثم قال ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وذلك عذاب الآخرة .

وقرأ الجمهور ( جزاء الحسنى ) بإضافة ( جزاء ) إلى ( الحسنى ) على الإضافة البيانية . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف جزاء الحسنى بنصب جزاء منونا على أنه تمييز لنسبة استحقاقه الحسنى ، أو مصدر مؤكد لمضمون جملة فله جزاء الحسنى ، أو حال مقدمة على صاحبها باعتبار تعريف الجنس كالتنكير .

وتأنيث الحسنى باعتبار الخصلة أو الفعلة . ويجوز أن تكون الحسنى هي الجنة كما في قوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة . والقول اليسر : هو الكلام الحسن . وصف باليسر المعنوي لكونه لا يثقل سماعه . وهو مثل قوله تعالى فقل لهم قولا ميسورا أي جميلا .

فإن كان المراد من الحسنى الخصال الحسنى ، فمعنى عطف وسنقول له من أمرنا يسرا أنه يجازي بالإحسان وبالثناء . وكلاهما [ ص: 28 ] من ذي القرنين ، وإن كان المراد من الحسنى ثواب الآخرة فذلك من أمر الله تعالى وإنما ذو القرنين مخبر به خبرا مستعملا في فائدة الخبر ، على معنى . إنا نبشره بذلك ، أو مستعملا في لازم الفائدة تأدبا مع الله تعالى ، أي أني أعلم جزاءه عندك الحسنى .

وعطف عليه وسنقول له من أمرنا يسرا لبيان حظ الملك من جزائه وأنه البشارة والثناء .

التالي السابق


الخدمات العلمية