الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب والترغيب والعكس ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريض بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته ، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم ; إمهالا للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ، ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون ، موجها الخطاب إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مفتتحا باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن مضمون الخبر تكريم له ، كقوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم .

والوجه في نظم الآية أن يكون الغفور نعتا للمبتدأ ويكون ذو الرحمة هو الخبر ; لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة " لو يؤاخذهم " ، فيكون ذكر " الغفور " إدماجا في خلال المقصود ، فخص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم الغفور تعريضا بالترغيب في الاستغفار .

[ ص: 357 ] والغفور : اسم يتضمن مبالغة الغفران ; لأنه واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يحصون ، ويغفر ذنوبا لا تحصى ، إن جاءه عبده تائبا منكسرا ، على أن إمهاله الكفار والعصاة هو أيضا من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة .

وأما قوله ذو الرحمة فهو المقصود تمهيدا لجملة لو يؤاخذهم بما كسبوا ، فلذلك كانت تلك الجملة بيانا لجملة وربك الغفور ذو الرحمة باعتبار " الغفور " الخبر ، وهو الوصف الثاني .

والمعنى : أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة ، ولكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر ، وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك ، وإعادة النظر ، وفيه استبقاؤهم على حالهم زمنا .

فوصف " ذو الرحمة " يساوي وصف ( الرحيم ) ; لأن ( ذو ) رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه .

وإنما عدل عن وصف الرحيم إلى " ذو الرحمة " للتنبيه على أنه لا نعت تنبيها بطريقة تغيير الأسلوب ، فإن اسم ( الرحيم ) صار شبيها بالأسماء الجامدة ، ; لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة ، فبعد عن ملاحظة الاشتقاق فيه ، واقترب من صنف الصفة الذاتية .

و ( بل ) للإضراب الإبطالي عن مضمون جواب ( لو ) ، أي لم يعجل لهم العذاب إذ لهم موعد للعذاب متأخر ، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر .

والموئل : مفعل من ( وأل ) بمعنى لجأ ، فهو اسم مكان بمعنى الملجأ .

وأكد النفي بـ ( لن ) ردا على إنكارهم ، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدة طويلة ، أي ; لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وعده أو مكان وعده ، فهو ملجؤهم ، وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي هم غير مفلتين منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية