الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا عطف على الجمل السابقة التي ضربت فيها أمثال من قوله واضرب لهم مثلا رجلين وقوله واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ، ولما كان في ذلك لهم مقنع ، وما لهم منه مدفع عاد إلى التنويه بهدي القرآن عودا ناظرا إلى قوله واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك وقوله وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فأشار لهم أن هذه الأمثال التي قرعت أسماعهم هي من جملة هدي القرآن الذي تبرموا منه ، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية عند قوله ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا في سورة الإسراء ، سوى أنه يتجه هنا أن يسأل : لم قدم في هذه الآية أحد متعلقي فعل التصريف على الآخر ؟ إذ قدم هنا قوله " في هذا القرآن " على قوله " للناس " عكس آية سورة الإسراء ، وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم [ ص: 347 ] من ذكر الناس بالأصالة ، ولا مقتضى للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس ; لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن ، وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس .

والناس : اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة ، والمقصود على الخصوص المشركون ، كما دل عليه جملة وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، فوزانه وزان قوله ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ، وسيجيء قوله ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق ، وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة .

وجملة وكان الإنسان أكثر شيء جدلا تذييل ، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز ، والتقدير : فجادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلا ، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم ، وحرف ( أل ) فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموما من لفظ الناس ، والمعنى : أنهم جادلوا ، والجدال : خلق ; منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ، ويبقى في خلق المشركين ، ومنه محمود كما في قوله تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب ، فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود ، وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى يقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل ; لأن هذا سيجيء في قوله تعالى ويجادل الذين كفروا بالباطل الآية ، فقوله هنا وكان الإنسان أكثر شيء جدلا تمهيد لقوله بعده ويجادل الذين كفروا بالباطل .

و ( شيء ) اسم مفرد متوغل في العموم ، ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه ، أي أكثر الأشياء ، واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة ، مثل قوله رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما ترك الجدال في شأنه أحسن ، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به .

[ ص: 348 ] وإنما ألجئنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجدل ، فالجدل خاص بالإنسان ; لأنه من شعب النطق الذي هو فصل حقيقة الإنسانية ، أما الملائكة فجدلهم محمود ، مثل قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها إلى قوله ونقدس لك ، وأما الشياطين فهم أكثر جدلا من الإنسان ، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل .

و " جدلا " تمييز لنسبة الأكثرية إلى الإنسان ، والمعنى : وكان الإنسان كثيرا من جهة الجدل ، أي كثيرا جدله ، ويدل لهذا المعنى ما ثبت في الصحيح عن علي : أن النبيء صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال : ألا تصليان ؟ فقال علي : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال : فانصرف رسول الله حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا ، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأولى بعلي أن يحمد إيقاظ رسول الله إياه ليقوم من الليل ، وأن يحرص على تكرر ذلك ، وأن يسر بما في كلام رسول الله من ملام ، ولا يستدل بما يحبذ استمرار نومه ، فذلك محل تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواب علي رضي الله عنه .

ولا يحسن أن يحمل التفضيل في الآية على بابه بأن يراد أن الإنسان أكثر جدلا من الشياطين والجن مما يجوز على حقيقته الجدل ; لأنه محمل لا يراد مثله في مثل هذا ، ومن أنبأنا أن للشياطين والجن مقدرة على الجدل ؟

والجدل : المنازعة بمعاوضة القول ، أي هو الكلام الذي يحاول به إبطال ما في كلام المخاطب من رأي أو عزم عليه : بالحجة أو بالإقناع أو بالباطل ، قال تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، وقال قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، وقال يجادلنا في قوم لوط ، وقال ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ، وقال يجادلونك في الحق بعدما تبين .

[ ص: 349 ] والمراد هنا مطلق الجدل ، وبخاصة ما كان منه بباطل ، أي أن كل إنسان في طبعه الحرص على إقناع المخالف بأحقية معتقده أو عمله ، وسياق الكلام يقتضي إرادة الجدل الباطل .

التالي السابق


الخدمات العلمية