الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل

لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي ، فكانت مثار تخرصات في معرفة عددهم ، وحصر مدة مكثهم في كهفهم ، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصا ، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم [ ص: 291 ] على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة ، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس ، ودل علم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك .

وضمير " يقولون " عائد إلى غير مذكور ; لأنه معلوم من المقام ، أي يقول الناس أو المسلمون ، إذ ليس في هذا القول حرج ، ولكنهم نبهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه ، ومعنى ( سين ) الاستقبال سار إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين ، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر .

وقد أعلم الله أن قليلا من الخلق يعلمون عدتهم ، وهم من أطلعهم الله على ذلك ، وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم ; لأن قصتهم جاءت على لسانه ، فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم ، وروي أن ابن عباس قال : أنا من القليل .

وكأن أقوال الناس تمالأت على أن عدتهم فردية ; تيمنا بعدد المفرد ، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره ، وقد سمى الله قولهم ذلك " رجما بالغيب " .

والرجم حقيقته : الرمي بحجر ونحوه ، واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت ، قال زهير :


وما هو عنها بالحديث المرجم

والباء في بالغيب للتعدية ، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به .

وكل جملة رابعهم كلبهم وجملة سادسهم كلبهم في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها ، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف .

وجملة وثامنهم كلبهم الواو فيها واو الحال ، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف ، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ ، وهو إن كان نكرة [ ص: 292 ] فإن وقوعه خبر على معرفة أكسبه تعريفا ، على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة ، ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة ; لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما ذهب إليه في الكشاف ; لأنه غير معروف في فصيح الكلام : وقد رده السكاكي في المفتاح ، وغير واحد .

ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم : إن هذه الواو ، واو الثمانية ، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعفة النحاة ، ولم يعين مبتكره ، وقد عد ابن هشام في مغني اللبيب من القائلين بذلك الحريري ، وبعض ضعفة النحاة ; كابن خالويه ، والثعلبي من المفسرين .

قلت : أقدم هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة 370 فهو المقصود ببعض ضعفة النحاة ، وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في الانتصاف على الكشاف من سورة التحريم ، إذ روي عن ابن الحاجب : أن القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى ثيبات وأبكارا في سورة التحريم هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة " واو الثمانية " ، وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة ، أحدها : التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى والناهون عن المنكر في سورة " براءة " ، والثانية : في قوله وثامنهم كلبهم ، والثالثة : في قوله وفتحت أبوابها في الزمر ، قال ابن الحاجب : ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكره يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقري ، فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا ; لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد إلى آخره .

وقال في المغني : سبق الثعلبي الفاضل إلى عدها من المواضع في تفسيره ، وأقول : لعل الفاضل لم يطلع عليه ، وزاد الثعلبي قوله تعالى سبع ليال وثمانية أيام حسوما في سورة الحاقة حيث قرن اسم عدد " ثمانية " بحرف الواو .

[ ص: 293 ] ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاق بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن ; إما بلفظه كما هنا وآية " الحاقة " ، وإما بالانتهاء إليه كما في آية " براءة " وآية التحريم ، وإما بكون مسماه معدودا بعدد الثمانية كما في آية الزمر ، ولقد يعد الانتباه إلى ذلك من اللطائف ، ولا يبلغ أن يكون من المعارف ، وإذا كانت كذلك ، ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضل منها آية سورة التحريم ; لأنها صادفت الثامنة في الذكر ، وإن لم تكن ثامنة من صفات الموصوفين ، وكذلك لعد آية سورة الحاقة ، ومثل هذه اللطائف كالزهرة تشم ولا تحك .

وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى والناهون عن المنكر في سورة " براءة " .

وجملة قل ربي أعلم بعدتهم مستأنفة استئنافا بيانيا لما تثيره جملة سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم ، فأجيب بأن يحال العلم بذلك على علام الغيوب ، وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل ، وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع ، وقد لا يصادفه .

وجملة ما يعلمهم إلا قليل كذلك مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا : هل يكون بعض الناس عالما بعدتهم علما غير كامل ، فأجيب بأن قليلا من الناس يعلمون ذلك ، ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي ، وعلى كل حال فهم لا يوصفون بالأغلبية ; لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية