الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .

( إذ ) ظرف مضاف إلى الجملة بعده ، وهو متعلق بـ " كانوا " فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها .

ويجوز كون الظرف متعلقا بفعل محذوف تقديره : اذكر ، فتكون مستأنفة استئنافا بيانيا للجملة التي قبلها ، وأياما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء ; تنبيها على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله ، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييدا لهم لأجل إيمانهم ، فلذلك عطف عليه قوله فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة .

[ ص: 266 ] وأوى أويا إلى المكان : جعله مسكنا له ، فالمكان : المأوى ، وقد تقدم عند قوله تعالى أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون في سورة يونس .

والفتية : جمع قلة لـ ( فتى ) ، وهو الشاب المكتمل ، وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف ، والمراد بالفتية : أصحاب الكهف ، وهذا من الإظهار في مقام الإضمار ; لأن مقتضى الظاهر أن يقال : إذ أووا ، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أترابا متقاربي السن ، وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي ، وثبات الجأش ، والدفاع عن الحق ، ولذلك عدل عن الإضمار ، فلم يقل : إذ أووا إلى الكهف .

ودلت الفاء في جملة فقالوا على أنهم لما أووا إلى الكهف ، بادروا بالابتهال إلى الله .

ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه ، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة ، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به ، فزيادة من لدنك للتعلق بفعل الإيتاء ، تشير إلى ذلك ; لأن في ( من ) معنى الابتداء وفي ( لدن ) معنى العندية والانتساب إليه ، فذلك أبلغ مما لو قالوا : آتنا رحمة ; لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله ، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها ، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة ، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألما ، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين .

ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق ، والنجاة من مناوأة المشركين ، فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء .

و ( من ) في قوله من أمرنا ابتدائية .

[ ص: 267 ] والأمر هنا : الشأن والحال الذي يكونون فيه ، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك ، وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم ، فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم ، وأن ألهمهم موضع الكهف ، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمة ، وأن أنامهم نوما طويلا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة ، وحصل رشدهم إذ ثبتوا على الدين الحق ، وشاهدوه منصورا متبعا ، وجعلهم آية للناس على صدق الدين ، وعلى قدرة الله ، وعلى البعث .

والرشد بفتحتين : الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح ، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني ، والرشد بضم الراء وسكون الشين مرادف الرشد ، وغلب في حسن تدبير المال ، ولم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا بفتح الراء بخلاف قوله تعالى قد تبين الرشد من الغي في البقرة ، وقوله فإن آنستم منهم رشدا في سورة النساء فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء .

ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا : أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل ، ألا ترى أن الجمهور قرءوا قوله في هذه السورة على أن تعلمني مما علمت رشدا بضم الراء ; لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له ، وهي من لدنا علما ، معي صبرا ما لم تحط به خبرا ، ولا أعصي لك أمرا إلى آخره ، ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية