الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا

بقي قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا غير مردود عليهم ; لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عذاب ورعب ، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع ، فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات ، وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيرا لما سأله المشركون .

والمقصود : أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بينات الدلالة على صدقه ، فلم يهتد فرعون وقومه ، وزعموا ذلك سحرا ، ففي ذلك [ ص: 225 ] مثل للمكابرين كلهم ، وما قريش إلا منهم ، ففي هذا مثل للمعاندين وتسلية للرسول ، والآيات التسع هي : بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجها ، وانقلاب العصا حية ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والرجز وهو الدمل ، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات ، وهي مذكورة في سورة الأعراف ، وجمعها الفيروز آبادي في قوله :


عصا سنة بحر جراد وقمل يد ودم بعد الضفادع طوفان

فقد حصلت بقوله ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات .

ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورسالة موسى عليه السلام إقامة للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر ، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ، ولقنوهم شبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ; ليصفو لهم جو العلم في بلاد العرب ، وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حسابا .

فالمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته .

وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى ، وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة وآتينا موسى الكتاب الآيات ، ثم قوله إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .

فتكون هذه الجملة عطفا على جملة قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا أو على جملة قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي الآية ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل ; استشهادا بهم على المشركين ، وإدماجا للتعريض بهم بأنهم ساووا المشركين في إنكار [ ص: 226 ] نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه ; تذكيرا لهم بحال فرعون وقومه إذ قال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا .

والخطاب في قوله " فاسأل " للنبيء صلى الله عليه وسلم ، والمراد : سؤال الاحتجاج بهم على المشركين ، لا سؤال الاسترشاد كما هو بين .

وقوله مسحورا ظاهره أن معناه متأثرا بالسحر ، أي سحرك السحرة ، وأفسدوا عقلك ; فصرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل ، مثل الميمون والمشئوم ، وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ، والذي قال فيه إن هذا لساحر عليم ، فيكون إعراضا عن الاشتغال بالآيات ، وإقبالا على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم ، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه قال لمن حوله ألا تستمعون ، وكل تلك الأقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى عليه السلام ، فحكي في كل آية منها شيء منها .

و ( إذا ) ظرف متعلق بـ " آتينا " ، والضمير المنصوب في " جاءهم " عائد إلى بني إسرائيل ، وأصل الكلام : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل ، فاسألهم .

وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات ، فرجح عنده أنها سحر ، أو تعلق ظنه بحقيقة حال موسى ، فرجح عنده أنه أصابه سحر ; لأن الظن دون اليقين ، قال تعالى إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ، وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين .

ومعنى لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض : أن فرعون لم يبق في نفسه شك في أن تلك الآيات لا تكون إلا بتسخير الله ، إذ لا يقدر عليها غير الله ، وأنه إنما قال إني لأظنك يا موسى مسحورا عنادا ومكابرة وكبرياء .

[ ص: 227 ] وأكد كلام موسى بلام القسم ، وحرف التحقيق ; تحقيقا لحصول علم فرعون بذلك ، وإنما أيقن موسى بأن فرعون قد علم بذلك : إما بوحي من الله أعلمه به ، وإما برأي مصيب ; لأن حصول العلم عند قيام البرهان الضروري حصول عقلي طبيعي ، لا يتخلف عن عقل سليم .

وقرأ الكسائي وحده ( لقد علمت ) بضم التاء ، أي أن تلك الآيات ليست بسحر - كما زعمت - كناية على أنه واثق من نفسه السلامة من السحر .

والإشارة بـ " هؤلاء " إلى الآيات التسع جيء لها باسم إشارة العاقل ، وهو استعمال مشهور ، ومنه قوله تعالى إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ، وقول جرير :


ذم المنازل بعد منزلة اللوى     والعيش بعد أولئك الأيام

والأكثر أن يشار بـ ( أولاء ) إلى العاقل .

والبصائر : الحجج المفيدة للبصيرة ، أي العلم ، فكأنها نفس البصيرة .

وقد تقدم عند قوله تعالى هذا بصائر من ربكم في آخر الأعراف .

وعبر عن الله بطريق إضافة وصف الرب للسماوات والأرض ; تذكيرا بأن الذي خلق السماوات والأرض هو القادر على أن يخلق مثل هذه الخوارق .

والمثبور : الذي أصابه الثبور ، وهو الهلاك ، وهذا نذارة وتهديد لفرعون بقرب هلاكه ، وإنما جعله موسى ظنا ; تأدبا مع الله تعالى ، أو لأنه علم ذلك باستقراء تام ، أفاده هلاك المعاندين للرسل ، ولكنه لم يدر لعل فرعون يقلع عن ذلك ، وكان عنده احتمال ضعيف ، فلذلك جعل توقع هلاك فرعون ظنا ، ويجوز أن يكون الظن هنا مستعملا بمعنى اليقين كما تقدم آنفا .

وفي ذكر هذا من قصة موسى إتمام لتمثيل حال معاندي الرسالة المحمدية بحال من عاند رسالة موسى عليه السلام .

[ ص: 228 ] وجاء في جواب موسى عليه السلام لفرعون بمثل ما شافهه فرعون به من قوله إني لأظنك يا موسى مسحورا مقارعة له ، وإظهارا لكونه لا يخافه ، وأنه يعامله معاملة المثل قال تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية