الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا عطف على جملة وقل جاء الحق وزهق الباطل على ما في تلك الجملة والجمل التي سبقتها من معنى التأييد للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن [ ص: 189 ] الإغاظة للمشركين ابتداء من قوله وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ، فإنه بعد أن امتن عليه بأن أيده بالعصمة من الركون إليهم وتبشيره بالنصرة عليهم وبالخلاص من كيدهم ، وبعد أن هددهم بأنهم صائرون قريبا إلى هلاك ، وأن دينهم صائر إلى الاضمحلال ، أعلن له ولهم في هذه الآية : أن ما منه غيظهم وحنقهم ، وهو القرآن الذي طمعوا أن يسألوا النبيء أن يبدله بقرآن ليس فيه ذكر أصنامهم بسوء ، أنه لا يزال متجددا مستمرا ، فيه شفاء للرسول وأتباعه ، وخسارة للظالمين ، ولأن القرآن مصدر الحق ومدحض الباطل أعقب قوله جاء الحق وزهق الباطل بقوله وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة الآية ، ولهذا اختير للإخبار عن التنزيل الفعل المضارع المشتق من فعل المضاعف للدلالة على التجديد والتكرير والتكثير ، وهو وعد بأنه يستمر هذا التنزيل زمنا طويلا .

و ما هو شفاء مفعول ننزل ، و من القرآن بيان لما في ( ما ) من الإبهام كالتي في قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان ، أي الرجس الذي هو الأوثان ، وتقديم البيان لتحصيل غرض الاهتمام بذكر القرآن مع غرض الثناء عليه بطريق الموصولية بقوله ما هو شفاء ورحمة إلخ ، للدلالة على تمكن ذلك الوصف منه بحيث يعرف به ، والمعنى : ننزل الشفاء والرحمة وهو القرآن ، وليست من للتبعيض ، ولا للابتداء .

والشفاء حقيقته زوال الداء ، ويستعمل مجازا في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة ; تشبيها له ببرء السقم ، كقول عنترة :


ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس : ويك عنتر قدم

والمعنى : أن القرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين ، ويزيد خسارة للكافرين ; لأن كل آية من القرآن من أمره ونهيه ومواعظه وقصصه وأمثاله ووعده ووعيده ، كل آية من ذلك مشتملة على هدي وصلاح حال للمؤمنين المتبعينه .

[ ص: 190 ] ومشتملة بضد ذلك على ما يزيد غيظ المستمرين على الظلم . أي الشرك ، فيزدادون بالغيظ كراهية للقرآن فيزدادون بذلك خسارا بزيادة آثامهم واستمرارهم على فاسد أخلاقهم ، وبعد ما بينهم وبين الإيمان ، وهذا كقوله فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون .

وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يشتفى بها من الأدواء والآلام ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة فشملتها الآية بطريقة استعمال المشترك في معنييه ، وهذا مما بينا تأصيله في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير .

والأخبار الصحيحة في قراءة آيات معينة للاستشفاء من أدواء موصوفة ، بله الاستعاذة بآيات منه من الضلال كثيرة في صحيح البخاري وجامع الترمذي وغيرهما ، وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله في سرية ثلاثين راكبا فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا ، فلدغ سيد الحي فأتونا ، فقالوا : أفيكم أحد يرقي من العقرب ؟ قال : قلت : نعم ، ولكن لا أفعل حتى يعطونا ، فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة ، قال : فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ ، الحديث ، وفيه : حتى أتينا رسول الله فأخبرته فقال : وما يدريك أنها رقية ؟ قلت : يا رسول الله ، شيء ألقي في روعي أي : إلهام ألهمه الله ، قال : كلوا وأطعمونا من الغنم ، فهذا تقرير من النبيء صلى الله عليه وسلم بصحة إلهام أبي سعيد رضي الله عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية