الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 171 ] وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا حكاية فن من أفانين ضلالهم وعماهم في الدنيا ، فالجملة عطف على جملة ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ، وهو انتقال من وصف حالهم ، وإبطال مقالهم في تكذيب النبيء صلى الله عليه وسلم إلى ذكر حال آخر من حال معارضتهم وإعراضهم ، وهي حال طمعهم في أن يستنزلوا النبيء صلى الله عليه وسلم لأن يقول قولا فيه حسن ذكر لآلهتهم ليتنازلوا إلى مصالحته وموافقته إذا وافقهم في بعض ما سألوه .

وضمائر الغيبة مراد منها كفار قريش ، أي متولو تدبير أمورهم . وغير الأسلوب من خطابهم في آيات ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر إلى الإقبال على خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم لتغير المقام من مقام استدلال إلى مقام امتنان .

والفتن والفتون : معاملة يلحق منها ضر واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها ، من تغلب على القوة وعلى الفكر ، وتقدم في قوله تعالى والفتنة أشد من القتل في سورة البقرة .

وعدي يفتنونك بحرف ( عن ) لتضمينه معنى فعل كان الفتن لأجله ، وهو ما فيه معنى يصرفونك .

والذي أوحي إليه هو القرآن .

هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون .

[ ص: 172 ] وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي ، فمنها ما ليس له حظ من القبول ; لوهن سنده ، وعدم انطباقه على معاني الآية ، ومنها ما هو ضعيف السند ، وتتحمله الآية بتكلف ، ومرجع ذلك إلى أن المشركين راودوا النبيء صلى الله عليه وسلم أن لا يسويهم مع من يعدونهم منحطين عنهم من المؤمنين المستضعفين عندهم مثل : بلال ، وعمار بن ياسر ، وخباب ، وصهيب ، وأنهم وعدوا النبيء إن هو فعل ذلك بأن يجلسوا إليه ، ويستمعوا القرآن حين لا يكون فيه تنقيص آلهتهم ، وأن رسول الله هم بأن يظهر لهم بعض اللين ; رغبة في إقبالهم على سماع القرآن لعلهم يهتدون ، فيكون المراد من الذي أوحينا إليك بعض الذي أوحينا إليك ، وهو ما فيه فضل المؤمنين مثل قوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية ، أو ما فيه تنقيض الأصنام .

وسمات التخرص وضيق العطن في معنى الآية بحاق ألفاظها بادية على جميع هاته الأخبار ، وإذ قد ملئت بها كتب التفسير لم يكن بد من تأويل الآية بأمثل ما يناسب تلك الأخبار ; لئلا تكون فتنة للناظرين فنقول : إن رغبة النبيء صلى الله عليه وسلم في اقترابهم من الإسلام ، وفي تأمين المسلمين ، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو إنظارهم ، أو إرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين ، وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين ، وليس فيه فوات شيء على المسلمين ، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه .

فبالموصول في قوله الذي أوحينا إليك للعهد لما هو معلوم عند النبيء صلى الله عليه وسلم بحسب ما سأله المشركون من مخالفته ، فهذه الآية مسوقة مساق المن على النبيء بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد ، ومساق إظهار ملل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية ، وتخوفهم من عواقبها ، وفي ذلك تثبيت للنبيء وللمؤمنين ، وتأييس للمشركين بأن ذلك لن يكون .

[ ص: 173 ] وقوله لتفتري علينا غيره متعلق ب يفتنونك ، واللام للعلة ، أي يفعلون ذلك إضمارا منهم وطمعا في أن يفتري علينا غيره ، أي غير ما أوحي إليك ، وهذا طمع من المشركين أن يستدرجوا النبيء من سؤال إلى آخر ، فهو راجع إلى نياتهم ، وليس في الكلام ما يقتضي أن النبيء صلى الله عليه وسلم هم بذلك كما فهمه بعض المفسرين ، إذ لام التعليل لا تقتضي أكثر من غرض فاعل الفعل المعلل ، ولا تقتضي غرض المفعول ، ولا علمه .

و ( إن ) من قوله وإن كادوا ليفتنونك مخففة من ( إن ) المشددة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، واللام في ليفتنونك هي اللام الفارقة بين ( إن ) المخففة من الثقيلة وبين ( إن ) النافية فلا تقتضي تأكيدا للجملة .

وجملة وإذا لاتخذوك خليلا عطف على جملة إن كادوا ليفتنونك . و ( إذن ) حرف جزاء ، والنون التي بآخرها نون كلمة وليست تنوين تمكين فتكون جزاء لفعل يفتنونك بما معه من المتعلقات مقحما بين المتعاطفين لتصير واو العطف مع ( إذا ) مفيدة معنى فاء التفريع .

ووجه عطفها بالواو دون الاقتصار على حرف الجزاء ; لأنه باعتبار كونه من أحوالهم التي حاوروا النبيء صلى الله عليه وسلم فيها ، وألحوا عليه ناسب أن يعطف على جملة أحوالهم ، والتقدير : فلو صرفوك عن بعض ما أوحينا إليك لاتخذوك خليلا ، واللام في قوله لاتخذوك اللام الموطئة للقسم ; لأن الكلام على تقدير الشرط ، وهو لو صرفوك عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك خليلا .

واللام في قوله لاتخذوك لام جواب ( لو ) إذ كان فعلا ماضيا مثبتا .

والخليل : الصديق ، وتقدم عند قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا في سورة النساء .

التالي السابق


الخدمات العلمية