الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1753 - مسألة : وفرض على كل مسلم أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون ، إما لرق ، وإما لكفر ، وإما لأن هنالك من يحجبهم عن الميراث أو لأنهم لا يرثون فيوصي لهم بما طابت به نفسه ، لا حد في ذلك ، فإن لم يفعل أعطوا ولا بد ما رآه الورثة ، أو الوصي .

                                                                                                                                                                                          فإن كان والداه ، أو أحدهما على الكفر ، أو مملوكا ففرض عليه أيضا أن يوصي لهما ، أو لأحدهما إن لم يكن الآخر كذلك ، فإن لم يفعل أعطي ، أو أعطيا من المال ولا بد ، ثم يوصي فيما شاء بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن أوصى لثلاثة من أقاربه المذكورين أجزأه .

                                                                                                                                                                                          والأقربون : هم من يجتمعون مع الميت في الأب الذي به يعرف إذا نسب ، ومن جهة أمه كذلك أيضا : هو من يجتمع مع أمه في الأب الذي يعرف بالنسبة إليه ; لأن هؤلاء في اللغة أقارب ، ولا يجوز أن يوقع على غير هؤلاء اسم أقارب بلا برهان .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : قول الله تعالى : { الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم } فهذا فرض كما تسمع ، فخرج منه الوالدان ، والأقربون الوارثون ، وبقي من لا يرث منهم على هذا الفرض .

                                                                                                                                                                                          وإذ هو حق لهم واجب فقد وجب لهم من ماله جزء مفروض إخراجه لمن وجب له إن ظلم هو ، ولم يأمر بإخراجه ، وإذا أوصى لمن أمر به فلم ينه عن الوصية لغيرهم ، فقد أدى ما أمر به - وله أن يوصي بعد ذلك بما أحب .

                                                                                                                                                                                          ومن أوصى لثلاثة أقربين فقد أوصى للأقربين - وهذا قول طائفة من السلف - : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر ، وابن جريج ، كلاهما عن عبد الله بن طاوس عن أبيه ، قال : من أوصى لقوم وسماهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت على ذوي قرابته ، فإن لم يكن في أهله فقراء فلأهل الفقر من كانوا . [ ص: 354 ] ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن قتادة عن الحسن ، قال : إذا أوصى في غير أقاربه بالثلث : جاز لهم ثلث الثلث ، ورد على قرابته : ثلثا الثلث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو هلال عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال فيمن أوصى لثلاثة في غير قرابته ، فقال : للقرابة الثلثان ، ولمن أوصى له الثلث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - نا أبو معاوية الضرير نا الأعمش عن مسروق : أنه قال : إن الله قسم بينكم فأحسن القسمة ، وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله عز وجل يضل ، أوص لقرابتك ممن لا يرث ، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل نا سليمان بن حرب نا حماد بن سلمة عن عطاء بن أبي ميمونة قال : سألت سالم بن يسار ، والعلاء بن زياد عن قول الله عز وجل : { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } فدعوا بالمصحف فقرآ هذه الآية ، فقالا : هي للقرابة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل نا علي بن عبد الله نا معاذ بن هشام الدستوائي : حدثني أبي عن قتادة عن عبد الملك بن يعلى : أنه كان يقول فيمن يوصي لغير ذي القربى وله ذو قرابة ممن لا يرثه : أنه يجعل ثلثا الثلث لذوي القرابة وثلث الثلث لمن أوصى له به .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل نا محمد بن عبيد نا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة في قول الله تعالى : { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } قال : نسخ منها الوالدان ، وترك الأقارب ممن لا يرث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية قال : هي للقرابة - يعني الوصية - .

                                                                                                                                                                                          وبوجوب الوصية للقرابة الذين لا يرثون يقول إسحاق ، وأبو سليمان .

                                                                                                                                                                                          وقال آخرون : ليس ذلك فرضا ، بل له أن يوصي لغير ذي قرابته .

                                                                                                                                                                                          وهو قول الزهري ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وسليمان بن يسار ، وعمرو بن دينار ، ومحمد بن سيرين . [ ص: 355 ] وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، ومالك ، والشافعي .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بحديث الذي أوصى بعتق الستة الأعبد ، ولا مال له غيرهم ، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة فقالوا : هذه وصية لغير الأقارب .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ; لأنه ليس فيه بيان أنه كان بعد نزول الآية المذكورة ، ونحن لا نخالفهم في أن قبل نزولها كان للمرء أن يوصي لمن شاء ، فهذا الخبر موافق للحال المنسوخة المرتفعة بيقين لا شك فيه قطعا - فحكم هذا الخبر منسوخ بلا شك والآية رافعة لحكمه ناسخة له بلا شك .

                                                                                                                                                                                          ومن ادعى في الناسخ أنه عاد منسوخا ، وفي المنسوخ أنه عاد ناسخا بغير نص ثابت وارد بذلك ، فقد قال الباطل وقفا ما لا علم له به ، وقال على الله تعالى ما لا يعلم وترك اليقين وحكم بالظنون ، وهذا محرم بنص القرآن .

                                                                                                                                                                                          ونحن نقول : إن الله تعالى قال : { تبيانا لكل شيء } فنحن نقطع ونبت ونشهد أنه لا سبيل إلى نسخ ناسخ ، ورد حكم منسوخ دون بيان وارد لنا بذلك ، ولو جاز غير هذا لكنا من ديننا في لبس ، ولكنا لا ندري ما أمرنا الله تعالى به مما نهانا عنه ، حاشا لله من هذا - فظهر لنا بطلان تمويههم بهذا الخبر .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فليس فيه أن ذلك الرجل كان صليبة من الأنصار ، وكان له قرابة لا يرثون ، فإذ ليس ذلك فيه فممكن أن يكون حليفا أتيا لا قرابة له ، فلا حجة لهم فيه ، ولا يحل القطع بالظن ، ولا ترك اليقين له .

                                                                                                                                                                                          وأعجب شيء احتجاجهم في هذا بأن عبد الرحمن بن عوف أوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف درهم - ولأهل بدر بمائة دينار ، مائة دينار لكل واحد منهم - وأن عمر أوصى لكل أم ولد له بأربعة آلاف درهم ، أربعة آلاف درهم - وأن عائشة أم المؤمنين أوصت لآل أبي يونس مولاها بمتاعها ؟ قال أبو محمد : إن هذا لمن قبيح التدليس في الدين ، وليت شعري : أي شيء في هذا مما يبيح أن لا يوصي لقرابته ؟ وهل في شيء من هذه الأخبار أنهم رضي الله عنهم لم يوصوا لقرابتهم ؟ فإن قالوا : لم يذكر هذا فيه ؟ قلنا : ولا ذكر فيه أنهم أوصوا بالثلث فأقل ، ولعلهم [ ص: 356 ] أوصوا بأكثر من الثلث - وهذه كلها فضائح ، نعوذ بالله من مثلها - ونسأله العصمة والتوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية