الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين عطف على جملة وإذا بدلنا آية مكان آية ، وهذا إبطال لتلبيس آخر مما يلبسون به على عامتهم ، وذلك أن يقولوا : إن محمدا يتلقى القرآن من رجل من أهل مكة ، قيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة وغيره ، قال عنه تعالى فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر ، أي لا يلقنه ملك بل يعلمه إنسان ، وقد عينوه بما دل عليه قوله تعالى لسان الذي يلحدون إليه أعجمي .

وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و ( قد ) يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامتهم ، ولا يجرون به بين المسلمين ; لأنه باطل مكشوف ، وأن الله أطلع المسلمين على ذلك ، فقد كان في مكة غلام رومي كان مولى لعامر بن الحضرمي ، اسمه ( جبر ) كان يصنع السيوف بمكة ، ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثاله من عامة النصارى من دعوات الصلوات ، فاتخذ زعماء المشركين من ذلك تمويها على العامة ، فإن معظم أهل مكة كانوا أميين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها - ولو محرفة - أو يكتب حروفا يتعلمها يحسبونه على علم ، وكان النبيء صلى الله عليه وسلم لما جانبه قومه ، وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام ، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش : هذا يعلم محمدا ما يقوله .

[ ص: 287 ] وقيل : كان غلام رومي اسمه ( بلعام ) كان عبدا بمكة لرجل من قريش ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام ، فقالوا : إن محمدا يتعلم منه ، وكان هذا العبد يقول : إنما يقف علي يعلمني الإسلام .

وظاهر الإفراد في إليه أن المقصود رجل واحد ، وقد قيل : المراد عبدان هما ( جبر ) ، ( ويسار ) كانا قنين ، فيكون المراد بـ ( بشر ) الجنس ، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده .

وقد كشف القرآن هذا اللبس هنا بأوضح كشف ؛ إذ قال قولا فصلا دون طول جدال لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ، أي كيف يعلمه وهو أعجمي لا يكاد يبين ، وهذا القرآن فصيح عربي معجز .

والجملة جواب عن كلامهم ، فهي مستأنفة استئنافا بيانيا ;لأن قولهم إنما يعلمه بشر يتضمن أنه ليس منزلا من عند الله فيسأل سائل : ماذا جواب قولهم ؟ فيقال لسان الذي إلخ ، وهذا النظم نظير نظم قوله تعالى قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته .

وألحد : مثل لحد ، أي مال عن القويم ، فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى المجرد ، كقولهم : أبان بمعنى بان . فمعنى يلحدون يميلون عن الحق ; لأن ذلك اختلاق معاذير ، فهم يتركون الحق القويم من أنه كلام منزل من الله إلى أن يقولوا يعلمه بشر فذلك ميل عن الحق ، وهو إلحاد .

ويجوز أن يراد بالإلحاد الميل بكلامهم المبهم إلى قصد معين ; لأنهم قالوا إنما يعلمه بشر ، وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير ، فإذا وجدوا ساذجا أبله يسأل عن المعني بالبشر قالوا له : هو ( جبر ) أو ( بلعام ) ، وإذا توسموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا : هو بشر من الناس ، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق الميل على الاختيار ، وقرأ نافع والجمهور ( يلحدون ) بضم الياء مضارع ألحد ، وقرأ حمزة والكسائي يلحدون بفتح الياء من لحد مرادف ألحد ، وقد تقدم الإلحاد في قوله [ ص: 288 ] تعالى وذروا الذين يلحدون في أسمائه في سورة الأعراف ، وليست هذه الهمزة كقولهم : ألحد الميت ; لأن تلك للجعل ذا لحد .

واللسان : الكلام ، سمي الكلام باسم آلته ، والأعجمي : المنسوب إلى الأعجم ، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده ، ولذلك سموا الدواب العجماوات ، فالياء فيه ياء النسب ، ولما كان المنسوب إليه وصفا كان النسب لتقوية الوصف .

والمبين : اسم فاعل من أبان ، إذا صار ذا إبانة ، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة ، فحصل تمام التضاد بينه وبين لسان الذي يلحدون إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية