الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 441 ]

                ثم هنا أمور : أحدها : الصحة في العبادات وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء .

                وقيل : موافقة الأمر . ولا يرد الحج الفاسد لعدم موافقته . فصلاة المحدث يظن الطهارة ، صحيحة على الثاني دون الأول ، والقضاء واجب على القولين ، والبطلان يقابلها على الرأيين . وفي المعاملات ، ترتب أحكامها المقصودة بها عليها . والبطلان والفساد مترادفين يقابلانها ، وعند الحنفية لا ترادف . وفرقوا بينهما بما سبق .

                التالي السابق


                قوله : " ثم هنا أمور ، أحدها : الصحة " إلى آخره ، يعني أننا ذكرنا من خطاب الوضع ما هو كالكليات له ، ثم هاهنا أمور وهي - وإن كانت منه - لكنها كاللواحق الجزئية له فنذكرها :

                أحدها : الصحة في العبادات وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء .

                وقيل : موافقة الأمر .

                معنى هذا : أن العلماء اختلفوا في معنى صحة العبادات ، فالفقهاء قالوا : الصحة وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء ، كالصلاة الواقعة بشروطها وأركانها مع انتفاء موانعها ، فكونها كافية في سقوط القضاء ، أي أنها لا يجب قضاؤها ، هو صحتها .

                والمتكلمون قالوا : الصحة موافقة الأمر ، فكل من أمر بعبادة ، فوافق الأمر بفعلها ، كان قد أتى بها صحيحة ، وإن اختل شرط من شروطها ، أو وجد مانع .

                وهذا أعم من قول الفقهاء ، لأن كل صحة ، فهي موافقة الأمر ، وليس كل موافقة الأمر صحة عندهم ، والنزاع بينهم لفظي أو كاللفظي . [ ص: 442 ]

                قوله : " ولا يرد الحج الفاسد لعدم موافقته " .

                هذا جواب سؤال مقدر أورده الفقهاء على المتكلمين .

                وتقريره : لو كانت الصحة موافقة الأمر ، لكان الحج الفاسد صحيحا ، لأنه مأمور بإتمامه ، والمضي فيه ، فالمتم له موافق الأمر بإتمامه ، فيجب أن يكون صحيحا ، لكنه فاسد باتفاق ، فوجب أن لا تكون الصحة موافقة الأمر ، بل ما ذكرنا من كونه كافيا في إسقاط القضاء .

                وتقرير الجواب عن هذا السؤال : أنا لا نسلم أن الحج الفاسد وقع على موافقة الأمر ، بل على مخالفته ، حيث فعل فيه ما أفسده ، وحينئذ انتفاء صحته لانتفاء موافقة الأمر فيه . فأما كون المفسد له مأمورا بإتمامه ، فلا يلزم منه أن يكون امتثاله الأمر بإتمامه يوجب صحته لوجهين :

                أحدهما : أن الأمر بإتمامه أمر طرأ على الأمر الأول : إما حفظا لحرمة الوقت من الهتك بعد انعقاد سبب احترامه بالإحرام ، أو عقوبة للمفسد له على إفساده يمنعه من التخفيف عليه ومعارضة له بنقيض قصده ، كالواطئ في نهار رمضان . ونحن إنما نريد بالأمر الذي الصحة موافقته الأمر الابتدائي ، أي : الذي أمر به المكلف ابتداء .

                الوجه الثاني : أننا إنما نقول : إن الصحة موافقة الأمر فيما نعلم أن الشارع طلب منا تصحيحه ، والحج الفاسد نعلم أن الشارع لم يرد منا تصحيحه ، لأن [ ص: 443 ] تصحيحه بعد استقرار فساده محال ، والشرع ما كلفنا بالمحال ، فبان بما ذكرناه أن الحج الفاسد غير وارد .

                وحاصل الجواب بالوجهين يرجع إلى تخصيص الدعوى ، فكأنهم قالوا : أردنا أن الصحة موافقة الأمر الخاص ، وهو الابتدائي ، أو ما علمنا إرادة الشرع تصحيح مأمور منا .

                قوله : " فصلاة المحدث يظن الطهارة صحيحة على الثاني دون الأول " .

                هذا تفريع على القولين في الصحة ، وهو أن صلاة المحدث الذي يظن أنه متطهر صحيحة على القول الثاني ، وهو قول المتكلمين : إن الصحة موافقة الأمر ، لأن هذا موافق لأمر الشرع ، لأنه أمر أن يصلي صلاة يغلب على ظنه الطهارة فيها ، وقد فعل ، فهو موافق .

                وهي غير صحيحة على القول الأول ، وهو قول الفقهاء ، لأنها لم تقع كافية في سقوط القضاء .

                قوله : " والقضاء واجب على القولين " ، أي : في صلاة المحدث يظن الطهارة ونحوها مما لم يقع كافيا في سقوط القضاء .

                ومن هنا تبين أن النزاع لفظي ، وهو في أن هذه : هل تسمى صحيحة أم لا ؟ لأنهم اتفقوا على سائر أحكامها ، فاتفقوا على أن هذا المصلي موافق لأمر الله سبحانه وتعالى ، مثاب على صلاته ، وأنه يجب عليه القضاء إذا اطلع على [ ص: 444 ] الحدث دون ما إذا لم يطلع ، فلم يبق النزاع إلا في التسمية ، ومذهب الفقهاء أوفق للغة ، لأن العرب إنما تسمي صحيحا ما سلم من جميع جهاته ، كالآنية التي لا كسر فيها ، فهذه الصلاة ليست سالمة من كل جهة وعلى كل تقدير ، بل هي بتقدير الذكر يتبين فسادها ، ويجب قضاؤها باتفاق .

                قوله : " والبطلان يقابلها على الرأيين " ، أي : البطلان يقابل الصحة على رأي الفقهاء والمتكلمين .

                فمن قال : الصحة : وقوع الفعل كافيا في سقوط القضاء ، قال : البطلان : هو وقوع الفعل غير كاف في سقوط القضاء . ومن قال : الصحة : موافقة الأمر ، قال : البطلان : مخالفة الأمر ، فعلى هذا لو صلى المتطهر يظن أنه محدث ، وجب القضاء على القولين ، لكن عند المتكلمين ، لكونها باطلة بالمخالفة ، وعند الفقهاء لفوات الشرط ، وهو العلم بوجود الطهارة .

                وشبيه بهذا ما لو اشتبهت عليه القبلة ، فصلى إلى جهة بغير اجتهاد ، فوافق جهة القبلة ، فهو مخالف بترك الاجتهاد ، فتكون باطلة على رأي المتكلمين ، وعند بعض الفقهاء تصح لوقعها بشرطها كافية في سقوط القضاء .

                قوله : " وفي المعاملات " ، أي : والصحة في المعاملات ، كعقد البيع ، والرهن ، والنكاح ، ونحوها ، " ترتب أحكامها المقصودة بها عليها " وذلك لأن العقد لم يوضع إلا لإفادة مقصود ، كملك المبيع في البيع ، وملك البضع في النكاح ، فإذا أفاد [ ص: 445 ] مقصوده ، فهو صحيح . وحصول مقصوده هو ترتب حكمه عليه ، لأن العقد مؤثر لحكمه وموجب له .

                قال الآمدي : ولا بأس بتفسير الصحة في العبادات بهذا .

                قلت : لأن مقصود العبادة إقامة رسم التعبد وبراءة ذمة العبد منها ، فإذا أفادت ذلك كان هو معنى قولنا : إنها كافية في سقوط القضاء ، فتكون صحيحة .

                قوله : " والبطلان والفساد مترادفين " ، أي : حال ترادفهما ، " يقابلانها " ، أي : يقابلان الصحة .

                أي : البطلان يقابل الصحة ، والفساد يقابل الصحة أيضا ، فيقال : صحيح وفاسد ، كما يقال : صحيح وباطل ، فالفاسد والباطل مترادفان .

                وعند الحنفية لا ترادف بينهما ، وفرقوا بينهما بما سبق ، يعني : في آخر مسألة توارد الأمر والنهي على الفعل عند ذكر الصلاة في المكان المغصوب ، فالفاسد والباطل عندهم من باب الأعم والأخص ، كالحيوان والإنسان ، إذ كل باطل فاسد ، وليس كل فاسد باطلا ، وعندنا هما مترادفان من باب الليث والأسد ، إذ كل فاسد باطل ، وكل باطل فاسد ، وقولي : مترادفين : حال ، لكنها بالنسبة إلى خصوص مذهبنا حال مؤكدة ، كقوله سبحانه وتعالى : وهو الحق مصدقا [ البقرة : 91 ] ، إذ لا يمكن أن يكون الفاسد والباطل غير مترادفين ، والحالة هذه ، إما بالنظر من حيث هي ، أو بالنسبة إلى مجموع المذهبين ، فهي مقيدة على القاعدة في باب الحال ، لأن التقييد حينئذ والبطلان والفساد إذا كانا مترادفين على رأينا يقابلان [ ص: 446 ] الصحة ، وإذا لم يكونا مترادفين على رأي الخصم لا يقابلانها جميعا ، إنما يقابلها مقابلة صحيحة البطلان وحده ، أما الفساد ، فإنه واسطة بينهما لا يقابل واحدا منهما ، وإن قوبلت به الصحة في تخاطب الفقهاء بينهم ، فهو اصطلاح واتساع ، والله سبحانه وتعالى أعلم .



                الخدمات العلمية