الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سورة الغاشية مكية وهي ست وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم



( هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم )

الضريع ، قال أبو حنيفة وأظنه صاحب النبات ، الضريع : الشبرق ، وهو مرعى سوء لا تعقد السائمة عليه شحما ولا لحما ، ومنه قول ابن عزارة الهذلي :


وحبسن في هزم الضريع فكلها حدباء دامية اليدين حرود



وقال أبو ذؤيب :


رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى     وصار ضريعا بان عنه النحائص



[ ص: 461 ] وقال بعض اللغويين : يبيس العرفج إذا تحطم . وقال الزجاج : هو نبت كالعوسج . وقال الخليل : نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر . النمارق : الوسائد ، واحدها نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما .

وقال زهير :


كهولا وشبانا حسانا وجوههم     على سرر مصفوفة ونمارق



الزرابي : بسط عراض فاخرة . وقال الفراء : هي الطنافس المخملة ، وواحدها زربية بكسر الزاي وبفتحها . سطحت الأرض : بسطت ووطئت .

( هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) .

[ ص: 462 ] هي مكية ، ولما ذكر فيما قبلها ( فذكر ) وذكر النار والآخرة ، قال : ( هل أتاك حديث الغاشية ) . والغاشية : الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يوم القيامة ، قاله سفيان والجمهور . وقال ابن جبير ومحمد بن كعب : النار ، قال تعالى : ( وتغشى وجوههم النار ) . وقال : ( ومن فوقهم غواش ) فهي تغشى سكانها ، وهذا الاستفهام توقيف ، وفائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر . وقيل : المعنى هل كان هذا من علمك لولا ما علمناك ؟ وفي هذا تعديد النعمة . وقيل : هل بمعنى قد ( وجوه يومئذ ) أي يوم إذ غشيت ، والتنوين عوض من الجملة ، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضا منها ، لكن لما تقدم لفظ الغاشية ، وأل موصولة باسم الفاعل ، فتنحل للتي غشيت ، أي للداهية التي غشيت ، فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها ، وإلى الموصول الذي هو التي ، ( خاشعة ) ذليلة ( عاملة ناصبة ) قال ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، و قتادة : ( عاملة ) في النار ( ناصبة ) تعبة فيها ؛ لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا ، قيل : وعملها في النار جر السلاسل والأغلال ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود نار وهبوطها في حدور منها . وقال ابن عباس أيضا و زيد بن أسلم ، وابن جبير : عاملة في الدنيا ناصبة فيها ؛ لأنها على غير هدى ، فلا ثمرة لها إلا النصب وخاتمته النار ، والآية في القسيسين وعباد الأوثان وكل مجتهد في كفره . وقال عكرمة والسدي : ( عاملة ناصبة ) بالنصب على الذم ، والجمهور برفعهما .

وقرأ : ( تصلى ) بفتح التاء ، وأبو رجاء ، وابن محيصن والأبوان : بضمها ، وخارجة : بضم التاء وفتح الصاد مشدد اللام ، وقد حكاها أبو عمرو بن العلاء . ( حامية ) مسعرة . ( آنية ) قد انتهى حرها ، كقوله : ( وبين حميم آن ) قاله ابن عباس ، والحسن ، و مجاهد . وقال ابن زيد : حاضرة لهم من قولهم : آنى الشيء حضر . والضريع ، قال ابن عباس : شجر من نار . وقال الحسين وجماعة : الزقوم . وقال ابن جبير : حجارة من نار . وقال ابن عباس أيضا و قتادة ، و عكرمة ، و مجاهد : شبرق النار . وقيل : العبشرق . وقيل : رطب العرفج ، وتقدم ما قيل فيه في المفردات . وقيل : واد في جهنم . والضريع إن كان الغسلين والزقوم ، فظاهر ولا يتنافى الحصر في ( إلا من غسلين ) و ( إلا من ضريع ) . وإن كانت أغيارا مختلفة ، والجمع بأن الزقوم لطائفة ، والغسلين لطائفة ، والضريع لطائفة .

وقال الزمخشري : ( لا يسمن ) مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع ، يعني أن طعامهم [ ص: 463 ] من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك ، والشوك مما ترعاه الإبل وتولع به ، وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ، ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه ، وهما إماطة الجوع وإفادة القوة ، والسمن في البدن . انتهى . فقوله : مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع . أما جره على وصفه لضريع فيصح ؛ لأنه مثبت منفي عنه السمن والإغناء من الجوع . وأما رفعه على وصفه لطعام فلا يصح ، لأن الطعام منفي ولا يسمن ، منفي فلا يصح تركيبه ، إذ يصير التقدير : ليس لهم طعام لا يسمن ولا يغني من جوع إلا من ضريع ، فيصير المعنى : أن لهم طعاما يسمن ويغني من جوع من غير ضريع ، كما تقول : ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو ، فمعناه أن له مالا ينتفع به من غير مال عمرو . ولو قيل : الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في ( إلا من ضريع ) كان صحيحا ؛ لأنه في موضع رفع على أنه بدل من اسم ليس ، أي ليس لهم طعام إلا كائن من ضريع ، إذ الإطعام من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع ، وهذا تركيب صحيح ومعنى واضح ، وقال الزمخشري : أو أريد أن لا طعام لهم أصلا ، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس ، لأن الطعام ما أشبع وأسمن ، وهو منهما بمعزل . كما تقول : ليس لفلان ظل إلا الشمس ، تريد نفي الظل على التوكيد . انتهى . فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا ، إذ لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظة طعام ، إذ ليس بطعام . والظاهر الاتصال فيه . وفي قوله : ( ولا طعام إلا من غسلين ) لأن الطعام هو ما يتطعمه الإنسان ، وهذا قدر مشترك بين المستلذ والمكروه وما لا يستلذ ولا يستكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية