الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون

هذا ضغث على إبالة من أحوالهم في إشراكهم تخالف قصة قوله تعالى ويجعلون لله البنات باعتبار ما يختص بهذه القصة من إضافتهم الأشياء المكروهة عندهم إلى الله مما اقتضته كراهتهم البنات بقوله تعالى ولهم ما يشتهون ، فكان ذلك الجعل ينطوي على خصلتين من دين الشرك ، وهما : نسبة البنوة إلى الله ، ونسبة أخس أصناف الأبناء في نظرهم إليه ، فخصت الأولى بالذكر بقوله ويجعلون لله البنات مع الإيماء إلى كراهتهم البنات كما تقدم ، وخصت هذه بذكر الكراهية تصريحا ، ولذلك كان الإتيان بالموصول والصلة ما يكرهون هو مقتضى المقام الذي هو تفظيع قولهم ، وتشنيع استئثارهم ، وقد يكون الموصول للعموم فيشير إلى أنهم جعلوا لله أشياء يكرهونها لأنفسهم مثل الشريك في التصرف ، وأشياء لا يرضونها لآلهتهم ، ونسبوها لله كما أشار إليه قوله تعالى فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون .

وفي الكشاف : ( يجعلون لله أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها ) ، فهو مراد عموم الموصول ، فتكون هذه القصة أعم من قصة قوله تعالى [ ص: 192 ] ويجعلون لله البنات ، ويكون تخصيصها بالذكر من جهتين : جهة اختلاف الاعتبار ، وجهة زيادة أنواع هذا الجعل .

وجملة وتصف ألسنتهم الكذب عطف قصة على قصة أخرى من أحوال كفرهم .

ومعنى تصف تذكر بشرح وبيان وتفصيل ، حتى كأنها تذكر أوصاف الشيء ، وحقيقة الوصف : ذكر الصفات والحلى ، ثم أطلق على القول المبين المفصل ، قال في الكشاف في الآية الآتية في أواخر هذه السورة : هذا من فصيح الكلام وبليغه ، جعل القول كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد صورت الكذب بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر اهـ .

وقد تقدم في قوله تعالى سبحانه وتعالى عما يصفون في سورة الأنعام ، وسيأتي في آخر هذه السورة ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ، ومنه قول المعري :


سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا

أي يشكو الإعياء من قطع مسافة طويلة في زمن قليل ، وهو من بديع استعاراته .

والمراد من هذا الكذب كل ما يقولونه من أقوال خاصتهم ودهمائهم باعتقاد أو تهكم ، فمن الأول قول العاصي بن وائل المحكي في قوله تعالى وقال لأوتين مالا وولدا وفي قوله تعالى ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، ومن الثاني قولهم في البلية : أن صاحبها يركبها يوم القيامة لكيلا يعيى .

وانتصب ( الكذب ) على أنه مفعول ( تصف ) .

و ( أن لهم الحسنى ) بدل من ( الكذب ) أو ( الحسنى ) صفة لمحذوف ، أي الحالة الحسنى .

[ ص: 193 ] وجملة لا جرم أن لهم النار جواب عن قولهم المحكي ، ومعنى لا جرم : لا شك ، أي حقا ، وتقدم في سورة هود .

و ( مفرطون ) بكسر الراء المخففة في قراءة نافع : اسم فاعل من أفرط ، إذا بلغ غاية شيء ما ، أي مفرطون في الأخذ من عذاب النار .

وقرأه أبو جعفر بكسر الراء مشددة من فرط المضاعف ، وقرأه البقية بفتح الراء مخففة على زنة اسم المفعول ، أي مجعولون فرطا بفتحتين ، وهو المقدم إلى الماء ليسقي .

والمراد : أنهم سابقون إلى النار معجلون إليها ; لأنهم أشد أهل النار استحقاقا لها ، وعلى هذا الوجه يكون إطلاق الإفراط على هذا المعنى استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم :


فعجلنا القرى أن تشتمونا

أراد فبادرنا بقتالكم حين نزلتم بنا مغيرين علينا .

وفيه مع ذكر النار في مقابلتها محسن الطباق ، على أن قراءة نافع تحتمل التفسير بهذا أيضا لجواز أن يقال : أفرط إلى الماء إذا تقدم له .

التالي السابق


الخدمات العلمية