الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون عطف خبر على خبر ، وهو انتقال من الاستدلال بمصنوعات الله الكائنة في ذات الإنسان وفيما يحيط به من الموجودات إلى الاستدلال بما ساق الله من النعم ، فمن الناس معرضون عن التدبر فيها ، وعن شكرها وهم الكافرون ، فكان في الأدلة الماضية القصد إلى الاستدلال ابتداء متبوعا بالامتنان .

[ ص: 177 ] وتغير الأسلوب هنا فصار المقصود الأول هو الامتنان بالنعم مدمجا فيه الاعتبار بالخلق ، فالخطاب موجه إلى الأمة كلها ، ولذلك جاء عقبه قوله تعالى إذا فريق منكم بربهم يشركون .

وابتدئ بالنعم على وجه العموم إجمالا ، ثم ذكرت مهمات منها .

والخطاب موجه إلى المشركين ; تذكيرا لهم بأن الله هو ربهم لا غيره ; لأنه هو المنعم .

وموقع قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله هنا أنه لما أبطل في الآية السابقة وجود إلهين اثنين أحدهما فعله الخير والآخر فعله الشر أعقبه هنا بأن الخير والضر من تصرفات الله تعالى ، وهو يعطي النعمة وهو كاشف الضر .

والباء للملابسة ، أي ما لابسكم واستقر عندكم ، و من نعمة لبيان إبهام ( ما ) الموصولة .

و ( من ) في قوله تعالى فمن الله ابتدائية ، أي واصلة إليكم من الله ، أي من عطاء الله ; لأن النعمة لا تصدر عن ذات الله ، ولكن عن صفة قدرته أو عن صفة فعله عند مثبتي صفات الأفعال ، ولما كان ما بكم من نعمة مفيدا للعموم كان الإخبار عنه بأنه من عند الله مغنيا عن الإتيان بصيغة قصر .

و ( ثم ) في قوله تعالى ثم إذا مسكم الضر للتراخي الرتبي كما هو شأنها الغالب في عطفها الجمل ; لأن اللجأ إلى الله عند حصول الضر أعجب إخبارا من الإخبار بأن النعم كلها من الله ، ومضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها .

والمقصود : تقرير أن الله تعالى هو مدبر أسباب ما بهم من خير وشر ، وأنه لا إله يخلق إلا هو ، وإنهم لا يلتجئون إلا إليه إذا أصابهم ضر ، وهو ضد النعمة .

[ ص: 178 ] ومس الضر : حلوله ، استعير المس للحصول الخفيف ; للإشارة إلى ضيق صبر الإنسان بحيث إنه يجأر إلى الله بحصول أدنى شيء من الضر له ، وتقدم استعمال المس في الإصابة الخفيفة في قوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو في سورة الأنعام .

و ( تجأرون ) تصرخون بالتضرع ، والمصدر : الجؤار ، بصيغة أسماء الأصوات .

وأتبع هذه بنعمة أخرى ، وهي نعمة كاشف الضر عن الناس بقوله تعالى ثم إذا كشف الضر عنكم الآية .

و ( ثم ) للترتيب الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، وجيء بحرف ( ثم ) ; لأن مضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها ، فإن الإعراض عن المنعم بكشف الضر وإشراك غيره به في العبادة أعجب حالا ، وأبعد حصولا من اللجأ إليه عند الشدة .

والمقصود تسجيل كفران المشركين ، وإظهار رأفة الله بالخلق بكشف الضر عنهم عند التجائهم إليه مع علمه بأن من أولئك من يشرك به ، ويستمر على شركه بعد كشف الضر عنه .

و ( إذا ) الأولى مضمنة معنى الشرط ، وهي ظرف . و ( إذا ) الثانية فجائية ، والإتيان بحرف المفاجأة ; للدلالة على إسراع هذا الفريق بالرجوع إلى الشرك ، وأنه لا يتريث إلى أن يبعد العهد بنعمة كشف الضر عنه بحيث يفجأون بالكفر دفعة دون أن يترقبه منهم مترقب ، فكان الفريق المعني في قوله تعالى إذا فريق منكم فريق المشركين .

التالي السابق


الخدمات العلمية