الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 288 ] [ ص: 289 ] النوع الرابع

              في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

              ويشتمل على مسائل

              المسألة الأولى

              المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ; حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا .

              والدليل على ذلك أمور :

              أحدها : النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله ، والدخول [ ص: 290 ] تحت أمره ونهيه ; كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] .

              وقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .

              وقوله : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .

              ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة ; كقوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن إلى قوله : وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] .

              وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام ، وقوله : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [ النساء : 36 ] .

              إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق ، وبتفاصيلها على العموم ، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال ، والانقياد إلى أحكامه على كل حال ، وهو معنى التعبد لله .

              والثاني : ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله ، وذم من أعرض عن الله ، وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات ، والعذاب الآجل في الدار الآخرة ، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة ، والشهوات الزائلة ; فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق ، وعده قسيما له ، كما في قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية [ ص : 26 ] .

              [ ص: 291 ] وقال تعالى : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ النازعات : 37 - 39 ] .

              وقال في قسيمه : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ النازعات : 40 - 41 ] .

              وقال : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] .

              فقد حصر الأمر في شيئين : الوحي وهو الشريعة ، والهوى ، فلا ثالث لهما ، وإذا كان كذلك ; فهما متضادان ، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده ، فاتباع الهوى مضاد للحق .

              وقال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم [ الجاثية : 23 ] .

              وقال : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .

              وقال : الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ محمد : 16 ] . ،

              وقال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ محمد : 14 ] .

              وتأمل ; فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى ; فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه ، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس ; أنه قال : " ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه " . فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن [ ص: 292 ] اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى .

              والثالث : ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى ، والمشي مع الأغراض ; لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك ، الذي هو مضاد لتلك المصالح ، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة ، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته ، وسار حيث سارت به ، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها ، أو كان له شريعة درست ، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي ، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم ، واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا ، وهي التي يسمونها السياسة المدنية ; فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة ، وهو أظهر من أن يستدل عليه .

              وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم ; إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة ، أما الوجوب والتحريم ; فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار ; إذ يقال له : " افعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، و " لا تفعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق ، وهوى باعث على [ ص: 293 ] مقتضى الأمر أو النهي ، فبالعرض لا بالأصل ، وأما سائر الأقسام - وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف - ; فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره ، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره ، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض ، وقد لا يكون ؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار ، بل في رفعه مثلا ، كيف يقال : إنه داخل تحت اختياره ؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا ; حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه ، كما يطرأ للمتنازعين في حق .

              وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول ، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس ، فيحب الآن ما يكره غدا ، وبالعكس ، فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق ، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى ; فسبحان الذي أنزل في كتابه : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .

              فإذا ; إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف ، إلا من حيث كان قضاء من الشارع ، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع ، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي ، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله .

              فإن قيل : وضع الشرائع ; إما أن يكون عبثا ، أو لحكمة ; فالأول باطل باتفاق ، وقد قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا [ المؤمنون : 115 ] .

              [ ص: 294 ] وقال : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ ص : 27 ] .

              وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ الدخان : 38 - 39 ] .

              وإن كان لحكمة ومصلحة ، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ، ورجوعها إلى الله محال ; لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام ، فلم يبق إلا رجوعها إلى العباد ، وذلك مقتضى أغراضهم ، لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه ، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف ; فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم ؟

              وأيضا ; فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد ، وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى على ما يقوله المحققون ، أو وجوبا على ما يزعمه المعتزلة ، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا ; كان ما ينافيه باطلا .

              فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد ; فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع ، وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ; ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس ، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك ، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه ، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع ، وهذا هو المراد ، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض ، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في [ ص: 295 ] العاجل والآجل ، فصحيح ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع ، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع ، وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم ; لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع ; لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة ، وذلك ما أردنا هاهنا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية