الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 226 ] الحديث الثالث والثلاثون

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر . حديث حسن ، رواه البيهقي وغيره هكذا ، وبعضه في " الصحيحين " .

التالي السابق


أصل هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه .

وخرجاه أيضا من رواية نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه .

واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساقه ابن الصلاح قبله في الأحاديث الكليات ، وقال : رواه البيهقي بإسناد حسن .

[ ص: 227 ] وخرجه الإسماعيلي في " صحيحه " من رواية الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ، ولكن البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب .

وروى الشافعي : أنبأ مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي قال الشافعي : وأحسبه - ولا أثبته - أنه قال : واليمين على المدعى عليه .

وروى محمد بن عمر بن لبابة الفقيه الأندلسي عن عثمان بن أيوب الأندلسي - ووصفه بالفضل - عن غازي بن قيس ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث ، قال : لكن البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر وغازي بن قيس الأندلسي كبير صالح ، سمع من مالك وابن جريج وطبقتهما ، وسقط من هذا الإسناد ابن جريج والله أعلم .

وقد استدل الإمام أحمد وأبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ، وهذا يدل على أن هذا اللفظ عندهما صحيح محتج به ، وفي المعنى أحاديث كثيرة ، ففي " الصحيحين " عن الأشعث بن قيس ، قال : كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاهداك أو يمينه ، قلت : إذا يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر ، لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ، ثم اقترأ هذه الآية : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] . وفي رواية لمسلم بعد قوله : " إذا يحلف " ، قال : ليس لك إلا ذلك . وخرجه أيضا مسلم بمعناه من حديث وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وخرج الترمذي من حديث العرزمي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، وقال : في إسناده مقال ، والعرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه . وخرجه الدارقطني من رواية مسلم بن خالد الزنجي - وفيه ضعف عن [ ص: 229 ] ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة . ورواه الحافظ عن ابن جرير ، عن عمرو مرسلا .

وخرجه أيضا من رواية مجاهد عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم الفتح : المدعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة ، وخرجه الطبراني ، وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وفي إسناده كلام . وخرج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة .

وروى حجاج الصواف ، عن حميد بن هلال ، عن زيد بن ثابت ، قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما رجل طلب عند رجل طلبة ، فإن المطلوب هو أولى باليمين .

وخرجه أبو عبيد والبيهقي ، وإسناده ثقات ، إلا أن حميد بن هلال ما أظنه لقي زيد بن ثابت ، وخرجه الدارقطني ، وزاد فيه " بغير شهداء " .

وخرج النسائي من حديث ابن عباس ، قال : جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على الآخر حقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي : أقم بينتك فقال : يا رسول الله ، ما لي بينة ، فقال للآخر : احلف بالله الذي لا إله إلا هو : ما له عليك أو عندك شيء .

وقد روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : أن البينة على المدعي ، [ ص: 230 ] واليمين على من أنكر . وقضى بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبي بن كعب ولم ينكراه .

وقال قتادة : فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام : هو أن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر .

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، قال : ومعنى قوله : البينة على المدعي يعني : يستحق بها ما ادعى ، لأنها واجبة يؤخذ بها ، ومعنى قوله : اليمين على المدعى عليه أي : يبرأ بها ، لأنها واجبة عليه ، يؤخذ بها على كل حال . انتهى .



وقد اختلف الفقهاء من أصحابنا والشافعية في تفسير المدعي والمدعى عليه .

فمنهم من قال : المدعي : هو الذي يخلى وسكوته من الخصمين ، والمدعى عليه : من لا يخلى وسكوته منهما .

ومنهم من قال : المدعي من يطلب أمرا خفيا على خلاف الأصل أو الظاهر ، والمدعى عليه بخلافه .

وبنوا على ذلك مسألة ، وهي إذا أسلم الزوجان الكافران قبل الدخول ، ثم اختلفا ، فقال الزوج : أسلمنا معا ، فنكاحنا باق ، وقالت الزوجة : بل سبق [ ص: 231 ] أحدنا إلى الإسلام ، فالنكاح منفسخ ، فإن قلنا : المدعي يخلى وسكوته ، فالمرأة هي المدعي ، فيكون القول قول الزوج ، لأنه مدعى عليه ؛ إذ لا يخلى وسكوته ، وإن قلنا : المدعي من يدعي أمرا خفيا ، فالمدعي هنا هو الزوج ، إذ التقارن في الإسلام خلاف الظاهر ، فالقول قول المرأة ؛ لأن الظاهر معها .

وأما الأمين إذا ادعى التلف ، كالمودع إذا ادعى تلف الوديعة ، فقد قيل : إنه مدع ، لأن الأصل يخالف ما ادعاه ، وإنما لم يحتج إلى بينة ، لأن المودع ائتمنه ، والائتمان يقتضي قبول قوله .

وقيل : إن المدعي الذي يحتاج إلى بينة هو المدعي ، ليعطى بدعواه مال قوم أو دماءهم ، كما ذكر ذلك في الحديث ، فأما الأمين ، فلا يدعي ليعطى شيئا ، وقيل : بل هو مدعى عليه ، لأنه إذا سكت ، لم يترك ، بل لا بد له من رد الجواب ، والمودع مدع ، لأنه إذا سكت ترك ؛ ولو ادعى الأمين رد الأمانة إلى من ائتمنه ، فالأكثرون على أن قوله مقبول أيضا كدعوى التلف .

وقال الأوزاعي : لا يقبل قوله لأنه مدع . وقال مالك وأحمد في رواية : إن ثبت قبضه للأمانة ببينة ، لم يقبل قوله في الرد بدون البينة ، ووجه بعض أصحابنا ذلك بأن الإشهاد على دفع الحقوق الثابتة بالبينة واجب ، فيكون تركه تفريطا ، فيجب به الضمان ، وكذلك قال طائفة منهم في دفع مال اليتيم إليه : لا بد له من بينة ، لأن الله تعالى أمر بالإشهاد عليه فيكون واجبا .

وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين : أحدهما : أن البينة على المدعي أبدا ، واليمين على المدعى عليه أبدا ، وهو قول أبي حنيفة ، ووافقه طائفة من الفقهاء والمحدثين كالبخاري ، وطردوا ذلك في كل دعوى ، حتى في القسامة ، وقالوا : لا يحلف إلا المدعى عليه ، ورأوا أن لا يقضى بشاهد ويمين ، لأن اليمين لا تكون على المدعي ، ورأوا أن اليمين لا ترد على المدعي ، لأنها لا تكون إلا في جانب المنكر المدعى عليه .

[ ص: 232 ] واستدلوا في مسألة القسامة بما روى سعيد بن عبيد ، حدثنا بشير بن يسار الأنصاري ، عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره أن نفرا منهم انطلقوا إلى خيبر ، فتفرقوا فيها ، فوجدوا أحدهم قتيلا ، فذكر الحديث ، وفيه : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تأتوني بالبينة على من قتله ، قالوا : ما لنا بينة ، قال : فيحلفون قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه ، فوداه مائة من إبل الصدقة . خرجه البخاري ، وخرجه مسلم مختصرا ولم يتمه ، ولكن هذه الرواية تعارض رواية يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة فذكر قصة القتيل ، وقال فيه : فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ، وهذه هي الرواية المشهورة الثابتة المخرجة بلفظها بكمالها في " الصحيحين " . وقد ذكر الأئمة الحفاظ أن رواية يحيى بن سعيد أصح من رواية سعيد بن عبيد الطائي ، فإنه أجل وأعلم وأحفظ ، وهو من أهل المدينة ، وهو أعلم بحديثهم من الكوفيين .

وقد ذكر الإمام أحمد مخالفة سعيد بن عبيد ليحيى بن سعيد في هذا الحديث ، فنفض يده ، وقال : ذاك ليس بشيء ، رواه على ما يقول الكوفيون ، وقال : أذهب إلى حديث المدينين يحيى بن سعيد . وقال النسائي : لا نعلم أحدا تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير بن يسار ، وقال مسلم في كتاب " التمييز " لم يحفظه سعيد بن عبيد على وجهه ، لأن جميع الأخبار فيها سؤال النبي صلى الله عليه وسلم إياهم قسامة خمسين يمينا ، وليس في شيء من أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 233 ] سألهم البينة ، وترك سعيد القسامة ، وتواطؤ الأخبار بخلافه يقضي عليه بالغلط ، وقد خالفه يحيى بن سعيد .

وقال ابن عبد البر في رواية سعيد بن عبيد : هذه رواية أهل العراق عن بشير بن يسار ، ورواية أهل المدينة عنه أثبت ، وهم به أقعد ، ونقلهم أصح عند أهل العلم .

قلت : وسعيد بن عبيد اختصر قصة القسامة ، وهي محفوظة في الحديث ، فقد خرج النسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ولي القتيل شاهدين على من قتله ، فقال : ومن أين أصيب شاهدين ؟ قال : فتحلف خمسين قسامة قال : كيف أحلف على ما لم أعلم ؟ قال : فتستحلف منهم خمسين قسامة فهذا الحديث يجمع بين روايتي سعيد بن عبيد ويحيى بن سعيد ، ويكون كل منهما ترك بعض القصة ، فترك سعيد ذكر قسامة المدعين ، وترك يحيى ذكر البينة قبل طلب القسامة والله أعلم .



وأما مسألة الشاهد مع اليمين ، فاستدل من أنكر الحكم بالشاهد واليمين بحديث : شاهداك أو يمينه وقوله صلى الله عليه وسلم : ليس لك إلا ذلك ، وقد تكلم القاضي إسماعيل المالكي في هذه اللفظة ، وقال : تفرد بها منصور عن أبي وائل ، وخالفه سائر الرواة ، وقالوا : إنه سأله : ألك بينة أم لا ؟ والبينة لا تقف على الشاهدين فقط ، بل تعم سائر ما يبين الحق .

وقال غيره : يحتمل أن يريد بشاهديه كل نوعين يشهدان للمدعي بصحة دعواه يتبين بهما الحق ، فيدخل ذلك شهادة الرجلين ، وشهادة الرجل مع المرأتين ، وشهادة الواحد مع اليمين ، وقد أقام الله سبحانه أيمان المدعي مقام الشهود في اللعان .

[ ص: 234 ] وقوله في تمام الحديث : ليس لك إلا ذلك : لم يرد به النفي العام ، بل النفي الخاص ، وهو الذي أراده المدعي ، وهو أن يكون القول قوله بغير بينة ، فمنعه من ذلك ، وأبى ذلك عليه ، وكذلك قوله في الحديث الآخر : ولكن اليمين على المدعى عليه إنما أريد بها اليمين المجردة عن الشهادة ، وأول الحديث يدل على ذلك ، وهو قوله : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم فدل على أن قوله : اليمين على المدعى عليه إنما هي اليمين القاطعة للمنازعة مع عدم البينة ، وأما اليمين المثبتة للحق ، مع وجود الشهادة ، فهذا نوع آخر ، وقد ثبت بسنة أخرى .

وأما رد اليمين على المدعي ، فالمشهور عن أحمد موافقة أبي حنيفة ، وأنها لا ترد ، واستدل أحمد بحديث : اليمين على المدعى عليه ، وقال في رواية أبي طالب عنه : ما هو ببعيد أن يقال له : تحلف وتستحق ، واختار ذلك طائفة من متأخري الأصحاب ، وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد ، وروي عن طائفة من الصحابة ، وقد ورد فيه حديث مرفوع خرجه الدارقطني وفي إسناده نظر .

قال أبو عبيد : ليس هذا إزالة لليمين عن موضعها ، فإن الإزالة أن لا يقضي باليمين على المطلوب ، فأما إذا قضي بها عليه ، فرضي بيمين صاحبه ، كان هو الحاكم على نفسه بذلك ، لأنه لو شاء ، لحلف وبرئ ، وبطلت عنه الدعوى .

والقول الثاني في المسألة : أنه يرجح جانب أقوى المتداعيين ، وتجعل اليمين في جانبه ، هذا مذهب مالك ، وكذا ذكر القاضي أبو يعلى في خلافه أنه مذهب أحمد ، وعلى هذا تتوجه المسائل التي تقدم ذكرها من الحكم بالقسامة والشاهد واليمين ، فإن جانب المدعي في القسامة لما قوي باللوث جعلت [ ص: 235 ] اليمين في جانبه ، وحكم له بها ، وكذلك المدعي إذا أقام شاهدا ، فإنه قوي جانبه ، فحلف معه ، وقضي له .

وهؤلاء لهم في الجواب عن قوله : البينة على المدعي طريقان : أحدهما : أن هذا خص من هذا العموم بدليل .

والثاني : أن قوله : البينة على المدعي ليس بعام ، لأن المراد : على المدعي المعهود ، وهو من لا حجة له سوى الدعوى كما في قوله : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم فأما المدعي الذي معه حجة تقوي دعواه ، فليس داخلا في هذا الحديث .

وطريق ثالث وهو أن البينة : كل ما بين صحة دعوى المدعي ، وشهد بصدقه فاللوث مع القسامة بينة ، والشاهد مع اليمين بينة .

وطريق رابع سلكه بعضهم وهو الطعن في صحة هذه اللفظة ، أعني قوله : البينة على المدعي ، وقالوا : إنما الثابت هو قوله : اليمين على المدعى عليه . وقوله : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، يدل على أن مدعي الدم والمال لا بد له من بينة تدل على ما ادعاه ، ويدخل في عموم ذلك أن من ادعى على رجل أنه قتل موروثه ، وليس معه إلا قول المقتول عند موته : جرحني فلان ، أنه لا يكتفى بذلك ، ولا يكون بمجرده لوثا ، وهذا قول الجمهور خلافا للمالكية ، وإنهم جعلوه لوثا يقسم معه الأولياء ، ويستحقون الدم .

ويدخل في عمومه أيضا من قذف زوجته ولاعنها ، فإنه لا يباح دمها بمجرد لعانها ، وهذا قول الأكثرين خلافا للشافعي ، واختار قوله الجوزجاني لظاهر قوله عز وجل : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله [ النور : 8 ] ، [ ص: 236 ] والأولون منهم من حمل العذاب على الحبس ، وقالوا : إن لم تلاعن ، حبست حتى تقر أو تلاعن ، وفيه نظر .



ولو ادعت امرأة على رجل أنه استكرهها على الزنا ، فالجمهور أنه لا يثبت بدعواها عليه شيء . وقال أشهب من المالكية : لها الصداق بيمينها ، وقال غيره منهم : لها الصداق بغير يمين ، هذا كله إذا كانت ذات قدر ، وادعت ذلك على متهم تليق به الدعوى ، وإن كان المرمي بذلك من أهل الصلاح ، ففي حدها للقذف عن مالك روايتان .

وقد كان شريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازع فيها بمجرد القرائن الدالة على صدق إحدى المتداعيين ، وقضى شريح في أولاد هرة تداعاها امرأتان ، كل منهما تقول هي ولد هرتي ، قال شريح : ألقها مع هذه ، فإن هي قرت ودرت واسبطرت فهي لها ، وإن فرت وهربت وازبأرت ، فليس لها . قال ابن قتيبة : قوله اسبطرت ، يريد : امتدت للإرضاع ، وازبأرت : اقشعرت وتنفشت . وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشافعية ، ورجح قوله ابن عقيل من أصحابنا .

وقد روي عن الشافعي وأحمد استحسان قول القافة في سرقة الأموال ، والأخذ بذلك ، ونقل ابن منصور عن أحمد : إذا قال صاحب الزرع : أفسدت غنمك زرعي بالليل ، ينظر في الأثر ، فإن لم يكن أثر غنمه في الزرع ، لا بد لصاحب الزرع من أن يجيء بالبينة . قال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد لأنه مدع ، وهذا يدل على اتفاقهما على الاكتفاء برؤية أثر الغنم ، وأن البينة إنما تطلب عند عدم الأثر .



وقوله : واليمين على المدعى عليه يدل على أن كل من ادعى عليه [ ص: 237 ] دعوى ، فأنكر فإن عليه اليمين ، وهذا قول أكثر الفقهاء ، وقال مالك : إنما تجب اليمين على المنكر إذا كان بين المتداعيين نوع مخالطة ، خوفا من أن يتبذل السفهاء على الرؤساء بطلب أيمانهم .

وعنده : ولو ادعى على رجل أنه غصبه ، أو سرق منه ، ولم يكن المدعى عليه متهما بذلك ، لم يستحلف المدعى عليه وحكي أيضا عن القاسم بن محمد ، وحميد بن عبد الرحمن ، وحكاه بعضهم عن فقهاء المدينة السبعة ، فإن كان من أهل الفضل ، أو ممن لا يشار إليه بذلك ، أدب المدعي عند مالك ، واستدل بقوله : اليمين على المدعى عليه على أن المدعي لا يمين عليه ، وإنما عليه البينة ، وهو قول الأكثرين .

وروي عن علي أنه أحلف المدعي مع بينته أن شهوده شهدوا بحق ، وفعله أيضا شريح ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود وابن أبي ليلى وسوار العنبري وعبيد الله بن الحسن ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، وروي عن النخعي أيضا . وقال إسحاق : إذا استراب الحاكم ، وجب ذلك .

وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة ، فقال أحمد : قد فعله علي ، فقال له : أيستقيم هذا ؟ فقال : قد فعله علي ، فأثبت القاضي هذه رواية عن أحمد ، لكنه حملها على الدعوى على الغائب والصبي ، وهذا لا يصح ، لأن عليا إنما حلف المدعي مع بينته على الحاضر معه ، وهؤلاء يقولون : هذه اليمين لتقوية الدعوى إذا ضعفت باسترابة الشهود كاليمين مع الشاهد الواحد . وكان بعض المتقدمين يحلف الشهود إذا استرابهم أيضا ، ومنهم سوار العنبري قاضي البصرة ، وجوز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاة . وقد قال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع : إنها تستحلف وأخذ به الإمام أحمد .

وقد دل القرآن على استحلاف الشهود عند الارتياب بشهادتهم في الوصية [ ص: 238 ] في السفر في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إلى قوله : فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله [ المائدة : 106 ] ، وهذه الآية لم ينسخ العمل بها عند جمهور السلف ، وقد عمل بها أبو موسى ، وابن مسعود ، وأفتى بها علي ، وابن عباس ، وهو مذهب شريح والنخعي وابن أبي ليلى وسفيان والأوزاعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم ، قالوا : تقبل شهادة الكفار في وصية المسلمين في السفر ، ويستحلفان مع شهادتهما . وهل يمينهما من باب تكميل الشهادة ، فلا يحكم بشهادتهما بدون يمين ، أم من باب الاستظهار عند الريبة ؟ وهذا محتمل ، وأصحابنا جعلوها شرطا ، وهو ظاهر ما روي عن أبي موسى وغيره .

وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن اليمين مع الشاهد الواحد هو من باب الاستظهار ، فإن رأى الحاكم الاكتفاء بالشاهد الواحد ، لبروز عدالته ، وظهور صدقه ، اكتفى بشهادته بدون يمين الطالب .

وقوله : فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما [ المائدة : 107 ] يدل على أنه إذا ظهر خلل في شهادة الكفار ، حلف أولياء الميت على خيانتهما وكذبهما ، واستحقوا ما حلفوا عليه ، وهذا قول مجاهد وغيره من السلف .

ووجه ذلك أن اليمين في جانب أقوى المتداعيين ، وقد قويت هاهنا دعوى الورثة بظهور كذب الشهود الكفار ، فترد اليمين على المدعين ، ويحلفون مع اللوث ، ويستحقون ما ادعوه ، كما يحلف الأولياء في القسامة مع اللوث ، [ ص: 239 ] ويستحقون بذلك الدية والدم أيضا عند مالك وأحمد وغيرهما .

وقضى ابن مسعود في رجل مسلم حضره الموت ، فأوصى إلى رجلين مسلمين معه ، وسلمهما ما معه من المال ، وأشهد على وصيته كفارا ، ثم قدم الوصيان ، فدفعا بعض المال إلى الورثة ، وكتما بعضه ، ثم قدم الكفار ، فشهدوا عليهم بما كتموه من المال ، فدعا الوصيين المسلمين ، فاستحلفهما : ما دفع إليهما أكثر مما دفعاه ، ثم دعا الكفار ، فشهدوا وحلفوا على شهادتهم ، ثم أمر أولياء الميت أن يحلفوا أن ما شهدت به اليهود والنصارى حق ، فحلفوا ، فقضى على الوصيين بما حلفوا عليه ، وكان ذلك في خلافة عثمان ، وتأول ابن مسعود الآية على ذلك ، فكأنه قابل بين يمين الأوصياء والشهود الكفار فأسقطها ، وبقي مع الورثة شهادة الكفار ، فحلفوا معها ، واستحقوا ، لأن جانبهم ترجح بشهادة الكفار لهم ، فجعل اليمين مع أقوى المتداعيين ، وقضى بها .



واختلف الفقهاء : هل يستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي ورواية عن أحمد أو لا يستحلف إلا فيما يقضى فيه بالنكول كرواية عن أحمد ؟ أو لا يستحلف إلا فيما يصح بذله كما هو المشهور عن أحمد ؟ أو لا يستحلف إلا في كل دعوى لا تحتاج إلى شاهدين كما حكي عن مالك ؟ وأما حقوق الله عز وجل ، فمن العلماء من قال : لا يستحلف فيها بحال ، وهو قول أصحابنا وغيرهم ، ونص عليه أحمد في الزكاة ، وبه قال طاوس والثوري والحسن بن صالح وغيرهم ، وقال أبو حنيفة ومالك والليث والشافعي : [ ص: 240 ] إذا اتهم ، فإنه يستحلف ، وكذا حكي عن الشافعي فيمن تزوج من لا تحل له ، ثم ادعى الجهل ، أنه يحلف على دعواه ، وكذا قال إسحاق في طلاق السكران : يحلف أنه ما كان يعقل ، وفي طلاق الناسي : يحلف على نسيانه ، وكذا قال القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله في رجل قال لامرأته : أنت طالق . يحلف أنه ما أراد به الثلاث ، وترد إليه .

وخرج الطبراني من رواية أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان أناس من الأعراب يأتون بلحم ، فكان في أنفسنا منه شيء ، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اجهدوا أيمانهم إنهم ذبحوها ، ثم اذكروا اسم الله وكلوا وأبو هارون ضعيف جدا .

وأما المؤتمن في حقوق الآدميين حيث قبل قوله ، فهل عليه يمين أم لا ؟ ففيه ثلاثة أقوال للعلماء :

أحدهما : لا يمين عليه لأنه صدقه بائتمانه ، ولا يمين مع التصديق ، وبالقياس على الحاكم ، وهذا قول الحارث العكلي .

والثاني : عليه اليمين ، لأنه منكر ، فيدخل في عموم قوله : واليمين على من أنكر وهو قول شريح وأبي حنيفة والشافعي ومالك في رواية ، وأكثر أصحابنا .

والثالث : لا يمين عليه إلا أن يتهم وهو نص أحمد ، وقول مالك في رواية لما تقدم من ائتمانه .

وأما إذا قامت قرينة تنافي حال الائتمان ، فقد اختل معنى الائتمان .



[ ص: 241 ] وقوله : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إنما أريد به إذا ادعى على رجل ما يدعيه لنفسه ، وينكر أنه لمن ادعاه عليه ، ولهذا قال في أول الحديث : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم فأما من ادعى ما ليس له مدع لنفسه منكر لدعواه ، فهذا أسهل من الأول ، ولا بد للمدعي هنا من بينة ، ولكن يكتفى من البينة هنا بما لا يكتفى بها في الدعوى على المدعي لنفسه المنكر .

ويشهد لذلك مسائل : منها : اللقطة إذا جاء من وصفها ، فإنها تدفع إليه بغير بينة بالاتفاق ، لكن منهم من يقول : يجوز الدفع إذا غلب على الظن صدقه ، ولا يجب ، كقول الشافعي وأبي حنيفة ، ومنهم من يقول : يجب دفعها بذكر الوصف المطابق ، كقول مالك وأحمد .

ومنها الغنيمة إذا جاء من يدعي منها شيئا ، وأنه كان له ، واستولى عليه الكفار ، وأقام على ذلك ما يبين أنه له اكتفي به ، وسئل عن ذلك أحمد وقيل له : فيريد على ذلك بينة ؟ قال : لا بد به من بيان يدل على أنه له ، وإن علم ذلك ، دفعه إليه الأمير . وروى الخلال بإسناده عن الركين بن الربيع ، عن أبيه قال : جشر لأخي فرس بعين التمر ، فرآه في مربط سعد ، فقال : فرسي فقال سعد : ألك بينة ؟ قال : لا ، ولكن أدعوه ، فيحمحم ، فدعاه فحمحم ، فأعطاه إياه ، وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدو ، ثم ظهر عليه المسلمون ، ويحتمل أنه عرف أنه ضال ، فوضع بين الدواب الضالة ، فيكون كاللقطة .

ومنها الغصوب إذا علم ظلم الولاة ، وطلب ردها من بيت المال ، قال أبو الزناد : كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة ، كان [ ص: 242 ] يكتفي باليسير ، إذا عرف صرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه ، ولم يكلفه تحقيق البينة ، لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس ، ولقد أنفد بيت مال العراق في رد المظالم حتى حمل إليها من الشام ، وذكر أصحابنا أن الأموال المغصوبة مع قطاع الطريق واللصوص يكتفى من مدعيها بالصفة كاللقطة ، ذكره القاضي في خلافه ، وأنه ظاهر كلام أحمد .




الخدمات العلمية