الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              قال ابن العربي : " إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس ، فإنه يسقط ، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفي بعض أصول الشافعي اعتباره " انتهى ما قال .

              وهو مما ينظر فيه ، فإنه إن عنى بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد ، فالحكم كما قال ولا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه إن كان من المعتاد ، فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه ، وإلا لزم في أصل التكليف ، فإن تصور وقوع اختلاف; فإنما هو مبني على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد ، أو من قبيل الخارج عن المعتاد لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما .

              وأيضا; فتسميته خاصا يشاح فيه ، فإنه بكل اعتبار عام غير خاص; إذ [ ص: 274 ] ليس مختصا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض .

              وإن عنى بالحرج ما هو خارج عن المعتاد ، ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة; فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه ، فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم ، وقد شرع فيه التخفيف ، فهذا عام ، والمرض قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام ، بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض ، إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا ، ومنهم من يقدر على ذلك ، ومنهم من يقدر على الصوم ، ومنهم من لا يقدر ، فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه ، ومع ذلك فقد شرع فيه التخفيف على الجملة ، فالظاهر أنه خاص ، ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي; إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد ، فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام ، ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا ، وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص ، وإلا; فما من حرج يعد أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام ، وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد ، وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين; فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو خص به أحد من أصحابه كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة وشهادة خزيمة; فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك .

              فإن قيل : لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم ، وما كان خاصا ببعض الأقطار ، أو بعض الأزمان ، أو بعض الناس ، وما أشبه [ ص: 275 ] ذلك .

              فالجواب : إن هذا أيضا مما ينظر فيه ; فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص ; لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين ، أو بعض الأزمان المعينة ، أو الأمكنة المعينة ، وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة ، أو على وجه لا يقاس عليه غيره ; كنهيه عن ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة ، وكتخصيص الكعبة [ ص: 276 ] بالاستقبال ، والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد ; فتصور مثل هذا في مسألة ابن العربي غير متأت .

              فإن قيل : ففي النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره .

              قيل : وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر ; فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم ، بل جهة العموم أولى ; لأن الحرج فيها كلي بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم ; فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده ; فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض ، وإن سقط ، سقط في البعض ، وهذا متفق عليه بين الإمامين ، فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك .

              فإن قيل : لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا ، وهو عام ; كالتراب والطحلب وشبه ذلك ، أو خاص كما إذا كان عدم [ ص: 277 ] الانفكاك خاصا ببعض المياه ، فإن حكم الأول ساقط لعمومه ، والثاني مختلف فيه لخصوصه ، وكذلك اختلف في ماء البحر : هل هو طهور أم لا ؟ لأنه متغير خاص ، وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف ، والطلاق قبل النكاح إن كان عاما سقط ، وإن كان خاصا ففيه خلاف ، كما إذا قال : كل امرأة أتزوجها من بني فلان ، أو من البلد الفلاني ، أو من السودان ، أو من البيض ، أو كل بكر أتزوجها ، أو كل ثيب ، وما أشبه ذلك ، فهي طالق ، ومثله كل أمة اشتريتها ، فهي حرة ، هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص ، كما لو قال : كل حرة أتزوجها طالق ، وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط ، فإن قال فيه : كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا ، وجرى فيه الخلاف ، وأشباه ذلك من المسائل .

              فالجواب : أن هذا ممكن ، وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه ; إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عنمالك بعدم الاعتبار ، وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة ، وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه ، لا [ ص: 278 ] بالنسبة إلى نظر الأصول ، إلا أنه إذا ثبت الخلاف ، فهو المراد هنا والنظر الأصولي يقتضي ما قال ; فإن الحرج العام هو الذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه ، كالأمثلة المتقدمة ، فأما إذا أمكن الانفكاك عنه ; فليس بحرج عام بإطلاق ، إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر ، وإن كان أخف إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة ، لاختلاف أحوال الناس في ذلك .

              وأيضا ; فكما لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها ; فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين ، فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة : الطرف العام الذي لا انفكاك عنه في العادة الجارية ، ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتغير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه ، وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية